محمد صادق الحسيني ||
كل ما يدور من حولنا يؤكد بما لم يعد قابلاً للشك او الترديد بان مركز ثقل العالم ينتقل من الغرب الى الشرق..!
وان محور هذا الانتقال هو العلوم التي بدأت تهيمن عليها وتتقنها كل من الصين وروسيا وايران ، فيما لا تزال امريكا هيكلاً ضخماً لكنها لا تكاد تملأ جوفها الا اوهام القوة ومحدوديتها...!
وهاجس الصين هو الشبح الذي يطارد فيما كان يسمى يوم الدولة الاعظم في العالم ...!
واليكم مسار هذا التحول التاريخي بالوقائع:
لا بد لأي محلل موضوعي ان يعود الى الجذور البعيده ، لاي ازمة تظهر في العلاقات الدوليه في وقتنا الحاضر ، وذلك من اجل سبر اغوارها ، والوقوف على مدى عمق هذه الازمة ، واستشراف احتمالات تطورها ، والاستعداد للتعامل مع هذه التطورات والتداعيات ، بشكل يخدم المصلحة العربية العليا ، وفي مقدمتها القضيه العربيه المركزيه ، التي هي قضية فلسطين .
ان الازمة التي نعيش فصولها منذ اشهر ، بين الولايات المتحده والصين الشعبيه ، وما تخللها من حرب تجارية واقتصادية وتكنولوجية وعلمية وسياسية وغير ذلك ضد الصين الشعبيه ، لم تظهر الى العلن منذ انتشار فيروس كورونا في مدينة ووهان الصينيه ، بداية هذا العام ، وانما يعود تاريخ انطلاقها الى زمن ابعد بكثير .
فمنذ اعلان ضابط البحريه والخبير الاستراتيجي البحري الاميركي ، ألفرِدْ ثايَر ماهان ( Alfred Thayer Mahan ) عن استراتيجيته لفرض الهيمنة الاميركيه على العالم ، في اواخر القرن التاسع عشر ( توفي سنة ١٩١٤ ) ، والتي استند فيها الى ان الوسيلة الافضل ، لفرض هذه الهيمنة ، هو نشر الاساطيل الاميركيه في بحار ومحيطات العالم والسيطرة عليها ، مبتعداً بذلك عن استراتيجية مونرو ، التي كانت تركز على / او تدعو الى / بسط السيطرة على الاميركتين فقط .
وقد نفذت الولايات المتحده هذه الاستراتيجيه ، منذ سنة ١٩٠٧ ، عندما قرر الرئيس الاميركي الجمهوري ، ذو الاصول الهولنديه ، ثيودور روزفلت الذي انتخب رئيساً سنة ١٩٠٤ ، ارسال حملة بحرية عسكرية امريكية ، تضم العديد من البوارج الحربيه ، في جولة حول العالم . هذه الجوله التي شكلت تدريباً عسكرياً حياً لمشاركة الولايات المتحده ، بجيوشها البحرية والبريه ، في الحرب العالمية الاولى ومن ثم في الحرب العالمية الثانيه ، التي ادت بنتائجها الى فرض الهيمنة على كامل بحار اوروبا و"الشرق الاوسط" وجنوب شرق آسيا ، اي بحار اليابان والبحر الاصفر واجزاء من بحار الصين وغرب المحيط الهادئ . الى جانب اقامتها عشرات القواعد العسكرية ، البحريه والجويه والبرية في كل البلدان ، التي " حررتها " احتلتها خلال تلك الحرب ، سواءً في غرب اوروبا او في جنوب شرق آسيا .
وبقيت الولايات المتحده ، ورغم تطور الاتحاد السوفييتي وقواته البحريه وتصديها للبلطجة البحرية الاميركيه ، في كثير من بحار العالم ، خاصة في البحر المتوسط ، في مواجهة الاسطول السادس الاميركي ، منذ اواسط خمسينيات القرن الماضي ، او في غرب المحيط الهادئ في منطقة جزيرة غوام ، القريبه نسبياً من الساحل الجنوبي الشرقي لروسيا ، حيث ميناء ڤلاديڤستوك المطل على بحر اليابان ، او في منطقة بحر الفلبين ، الى الجنوب من بحر اليابان ، علاوة طبعاً على وقوف الاساطيل السوفييتيه بالمرصاد ، لاساطيل الولايات المتحده في بحار اوروبا والمحيطات الواقعه في غرب وشرق الكرة الارضيه ، نقول رغم ذلك فان الولايات المتحده بقيت ، تُمارس نفس سياسات الهيمنة ، بواسطة القوة العسكريه ، حتى بعد هزيمتها المنكرة في حرب فيتنام ، سنة ١٩٧٥ ، وفشلها في احتلال كامل شبه الجزيره الكوريه ، ابان الحرب الكوريه ١٩٥٠ - ١٩٥٣ ، ونجاح الاتحاد السوفييتي والصين الشعبيه في حماية جمهورية كوريا الديموقراطية ( الشماليه ) من الاحتلال الاميركي وبقاؤها شامخة في وجه هذا الاحتلال حتى يومنا هذا .
وهذا يعني ان العقيدة العسكرية الاميركية العدوانية لم تشهد اي تغير على جوهرها ، بل انها شهدت بعض التغييرات على تكتيكات وادوات تنفيذها ، على الصعد الاقليمية والدولية . وفي هذا الاطار قامت الولايات المتحدة ، باختراع حجة الارهاب ، بعد تفجيرات نيويورك سنة ٢٠٠١ وشنها حرباً على افغانستان ، لا زالت دائرة حتى اليوم ، ثم حربها الاولى والثانيه على العراق واحتلاله وتدمير الدولة العراقية ، وبعد محاولتها ، عبر قاعدتها العسكريه المسماة "اسرائيل" ، تدمير المقاومة في لبنان ( حزب الله ) سنة ٢٠٠٦ وفشلها في ذلك ، ومن ثم اختراع ادوات جديده ، خدمة لاستراتيجية الهيمنة الاميركيه واقامة حائط صد اما جمهورية الصين الشعبية ، يمتد من جزيرة غوام شرقاً وحتى جبل طارق غرباً ، منعاً لاستمرار تطور الصين الاقتصادي وتوسيع تعاونها مع هذا الفضاء الجغرافي والديموغرافي الواسع .
ولكن الصين الشعبيه وروسيا الاتحاديه لم تكونا غافلتين عن هذه المخططات الاميركية واهدافها وعواقبها التدميرية على العالم ، الامر الذي دفعهما ، منذ حوالي عقدين من الزمن الى اطلاق مشاريع استثمار عملاقة ، في العلوم والمعرفة والتكنولوجيا ، وهي المشاريع التي اوصلت الدولتين الى مستوىً متقدم جداً ، سواءً في الصناعات العسكريه او في الصناعات الالكترونيه الدقيقه المتعلقه بقطاع الاتصالات بشكل خاص . وهو القطاع الذي يتيح المجال لمن يملك التفوق في صناعاته المختلفه ، وهي الصين وروسيا وايران حالياً ، ان يكون له الدور الطليعي في التطور الاقتصادي والتحول الى القوه الاقتصاديه الاولى في العالم .
ومن الجدير بالذكر ان ما نقوله ليس دعاية مؤيدة للدول المذكور
اعلاه او انحيازاً سياسيا. لها وانما هو تحليل للواقع الذي نعيشه والاسباب التي اسست لتطوره . فالولايات المتحدة قامت ، خلال العقود الثلاثة الماضيه ، بانفاق ما يزيد على ثلاثة تريليونات دولار على الحروب وشراء السلاح ( البنتاغون تشتري ) ، بينما لم تنفق الدول الثلاث ، المذكوره اعلاه ، اكثر من ترليون دولار واحد على التسلح واستثمرت بقية مواردها في التطوير العلمي والتكنولوجي ، والاقتصادي بالنتيجة .
وعوضاً عن ان تتعظ واشنطن من هزائم مشاريعها وسياسات الهيمنة التي اتبعتها ، عبر العقود الثلاثة الماضيه بشكل خاص ، عمدت ، وبعد تولي ترامب رئاسة الولايات المتحده ، الى الاعلان عن استراتيجية امنية امريكية جديدة ، سنة ٢٠١٨ ، مكونة من ١٤ صفحة وصادرة عن البنتاغون ، اسمتها : استراتيجية الولايات المتحدة الاميركيه للدفاع الوطني .
وقد حددت فيها نصاً ان الاولوية ، في هذه الاستراتيجيه ، تتمثل في مواجهة الخطر الداهم ، على الولايات المتحده ، ومصدره الصين وروسيا وكذلك التصدي للخطر المحتمل ، من قبل الدول " المارقة " مثل كوريا الشماليه وايران ، وهو الامر الذي يجعل من الضروري الاستثمار ( زيادة الاتفاق العسكري ) في تطوير القدرات العسكرية الاميركيه اللازمة لبلوغ تلك الاهداف ( التصدي للخطر الروسي الصيني الداهم والخطر الكوري الايراني المحتمل ) .
وهذا يعني ، في تقديرنا ، ان جوهر هذه الاستراتيجيه الجديده يتلخص في ما يلي :
1. تخلي الولايات المتحده عن استخدام اكذوبة الارهاب ، داعش وغيرها ، التي اخترعتها وادارتها واشنطن طوال العقد الماضي ، والتركيز او اختراع خطر جديد تسميه هذه الاستراتيجيه بالخطر الصيني الروسي الداهم وذلك الكوري الايراني المحتمل .
2. ان هذه الاستراتيجيه ستقود ، وبشكل منطقي وموضوعي ، الى تخلي الولايات المتحدة عن دول النفط العربيه ، خاصة في ظل انعدام قيمة هذه المادة حالياً وانتهاء دورها الاستراتيجي( الوطيفي) في السياسة الاميركي ، الذي استمر قرابة قرن من الزمن .
3. وغني عن القول طبعاً ان هذا يعني ، وفي ظل الازمات والمآزق الاميركيه الناجمه عن انتشار فيروس كورونا ، ان سحب القوات الاميركيه ، من المنطقة العربية وافغانستان ، وكذلك تخفيف التواجد العسكري الاميركي في مناطق اخرى من العالم ، قد اصبح حقيقة واقعة برسم التنفيذ ، حتى لو تأخر ذلك بعض الشيء .
4. ان قيام الولايات المتحده بنشر ثلاث حاملات طائرات ، هي رونالد ريغان وثيودور روزفلت ويو إس إس نيميتس ، تحمل كلاً منها ٦٠ طائرة حربية ، حسب تصريح قائد قيادة المحيط الهندي والهادئ ، الجنرال ستيفين كولَر ( Stephan Kohler ) ، لا يتعدى كونه استعراض عضلات لن يؤدي حتى الى استفزاز الصين ، التي تعلم تمام العلم ان هذه التحركات تهدف الى تعويض العجز والتراجع الاستراتيجي ، الذي تعاني منه الولايات المتحده ، سواء. على الصعيد الاقتصادي او الصعيد العسكري .
5. انه ، وكما يقول الكاتب ، الاميركي الاسرائيلي سيث فرانتس مان Seth Frantzman ، في موضوع نشره على موقع الجروساليم بوست الاسرائليه وكذلك على موقع ناشيونال ريڤيو ( National Review ) بتاريخ ٢٥/٥/٢٠٢٠ ، اننا وعلى عكس ظهور الولايات المتحده الاميركيه كقوة عظمى ، قبل مائة عام ، فان جائحة كورونا وما سينتج عنها من كوارث دوليه ، ربما ستضع الاستراتيجيين الامريكيين في مواجهة احداث ، هم غير مهيأين لمواجهتها ، ستفضي الى جلوس الصين على عرش قيادة النظام العالمي .
ويتابع الكاتب قائلاً : اذا ما كانت الولايات المتحده وحلفائها جديون ، في حماية النظام الليبرالي ، فان عليهم التحرك بسرعة ،والا فاننا سنرى ، خلال ٢٥ سنه ، متغيرات سريعة شبيهة بتلك التي حصلت قبل مائة عام . ولكنها هذه المره لن تنتهي بسيطرة الولايات المتحدة ، وانما ستنتهي بجلوس الصين الشعبيه وروسيا وايران في مقعد القياده .
يهلك ملوكاً ويستخلف آخرين
بعدنا طيبين قولوا الله
ــــــــــــــــــ
https://telegram.me/buratha