محمود ريا
تلعب إيران الدبلوماسية كما يجب أن تكون: تعظيم المشتركات بين الدول، وتهميش الخلافات، أو تأجيلها، كي تأتي الظروف المناسبة لحلّها.
هكذا نسجت إيران الكثير من العلاقات، وحوّلت الهجمات الدبلوماسية عليها إلى علاقات دبلوماسية لمصلحتها، وربطت النزاع مع العديد من الدول.. وتوصلت إلى أهم اتفاق دبلوماسي دولي في الفترة الأخيرة ـ بحسب شهادة الكثير من الخبراء ـ ألا وهو اتفاق فيينا حول برنامجها النووي.
لقد كانت الجمهورية الإسلامية عرضة للهجمات العسكرية والسياسية والدبلوماسية منذ نشأتها، وكان هناك جهود كثيرة كي لا تنشأ أصلاً. ولكن عندما باتت هذه المؤسسة قائمة واقعاً، واستعصت على كلِّ محاولات إسقاطها، التفت قادتها إلى القوى الصغرى التي شاركت في محاولات الإسقاط، فاستوعبوها وبنوا معها علاقات أعلى من علاقات الحد الأدنى، فيما وقفت في موقف الندّ للدول الكبرى المسيّرة للمخططات التآمرية عليها، فلجمتها، وأوقفتها عند حدّها، وها هي تعمل على بناء مسارات علاقات معها، قائمة على مبدأ "رابح ـ رابح"، والندية في العلاقات.
من هذا المنطلق يمكن النظر إلى الجولة التي قام بها وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف في منطقة الخليج، والتي زار خلالها كلا من الكويت وقطر، ومن ثم العراق.
في الكويت والدوحة، كان ظريف يعبّر عن حالة انفتاح كاملة على شعبي البلدين، ومن خلالهما على كل شعوب الخليج، متجاوزاً كل المحاولات التي تبذلها دوائر سياسية وإعلامية معادية ومستفيدة من استمرار النزاع بين دول المنطقة.
رسالة ظريف كانت رسالة سلام ودعوة إلى التعاون وصولاً إلى التكامل بين شاطئي الخليج، في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية، وأيضاً في مواجهة المخاطر الأمنية الكبيرة التي تهدد دول المنطقة كلها، دون أي تمييز بين دولة وأخرى.
لقد أوصلت جولة ظريف الرسالة إلى من يريد استيعابها، وكان الرد عليها من سنخها، حيث كانت التصريحات المقابلة تحمل الأفكار التعاونية والتشاركية نفسها، ما يكشف عن رغبة حقيقية لإيجاد حلول للمشاكل والخلافات لدى معظم دول المنطقة.
بالمقابل، هناك من لا يزال ينتظر، ويضع العراقيل خلال مرحلة الانتظار. أما إذا كان السؤال عمّا ينتظره.. فربما لا يكون هناك أي جواب.
هو يقف على قارعة الطريق، يرى قافلة الاتفاقات تسير، بينما هو ما يزال واقفاً عند عتبة الماضي. يشعر أن الأحداث تتجاوزه، والتطورات تقفز فوقه، وهو مسمّر في مكانه، ولذلك تراه ينتفض، يتخبط يميناً ويساراً، ويضع العراقيل في وجه أية محاولة لترتيب الأوضاع وتخفيف الاحتقان فيها.
"الشقيقة الكبرى"، الغاضبة كثيراً، المتهورة أكثر، ما تزال تعاند الأجواء الإيجابية التي بدأت تجد طريقها إلى المنطقة، ولذلك تجدها تقف حجر عثرة في وجه كل محاولات تطبيع العلاقات على مستوى الإقليم، وتوغل في زرع الأجواء التشكيكية والفتنوية، من خلال تحركاتها السياسية، ومن خلال الإعلام المأجور الذي يعمل تحت أمرتها أو وفق أهوائها، مقابل الدعم المادي الهائل الذي تقدمه له.
ولذا كان من اللافت أن يقوم وزير الخارجية السعودي عادل الجبير بزيارة إلى الدوحة عشية زيارة ظريف إليها، في محاولة فُهم منها العمل على فرملة أي توافق قد يسود زيارة الوزير الإيراني إلى العاصمة القطرية، فيما كان الإعلام السعودي والموالي له يشكك بالجولة وبأهدافها وبنتائجها، في تصرف طفولي يُظهر الـ"حرد" السعودي إزاء مبادرة الوزير الإيراني، وأيضاً إزاء التلقف الخليجي لها.
ولعل ما يبرز هنا أن الطرف الذي كان إلى يمين الموقف السعودي من هذه الجولة يمثل فصائل مما يسمى بـ "المعارضة السورية"، وقد عبر عن هذا التطرف "المعارض السوري" ماجد حمدون الذي اعتبر في تصريحات له أن هذه الزيارة " تأتي من منطلق شق وحدة الصف بين دول مجلس التعاون الخليجي فيما يخص المشروع الإيراني في المنطقة"!
وكان حمدون أكثر صراحة في التعبير عن الموقف السعودي الناقم على الجولة من خلال تعبيره أن الهدف الخفي من الجولة "هو الضغط على الموقف الحاسم للمملكة العربية السعودية تجاه المشروع الفارسي الذي يستهدف الهيمنة على المنطقة".
إن موقفاً كهذا يشكل دليلاً على كيفية نظر السعودية وأذنابها إلى التحرك الناجح الذي يقوده ظريف، والذي يشكل تجسيداً للدبلوماسية الإيرانية العريقة والمثمرة، والتي تقوم على الوضوح في عرض الموقف، وفي السعي إلى جسر الخلافات وتقريب وجهات النظر مع من يملك قابلية التفاوض للوصول إلى نتائج مفيدة للطرفين.
وفيما تواصل إيران حراكها الفعّال، وتستمر السعودية في جمودها القاتل، تتوالى النجاحات السياسية والاقتصادية والديبلوماسية الإيرانية، في موازاة الفشل والحنق والحقد السعودي الذي يتصاعد، إلى أن تصل الرياض إلى أحد خيارين لا ثالث لهما: إما أن تسير في الطريق الصحيح المتمثل في التخلي عن العنجهية والتجبّر والسعي لفرض الموقف على الحلفاء والخصوم دون امتلاك أي مقوّمات تسمح لها بهذا الفرض، وإما أن تسير باتجاه فقدان التأثير على الأحداث وعلى الأحلاف.. وحتى على الحلفاء في الجوار وفي كل مكان.
https://telegram.me/buratha