تبدو “المملكة العربية الهاشمية” التي تضم جنوبي سوريا وغربي العراق وما تيسّر من الضفة الغربية، وكأنها قاب قوسين أو أدنى؛ فطالما أنها مرحلة الفوضى الإقليمية وتغيير الخرائط واعتماد المرجعيات الإسلامية ــــ المذهبية والبحث عن حل جذري للسنّة في الهلال الخصيب، فلعلها فرصة العمر الهاشمية!
هناك، أولا، وقائع: ــــ القسم الرئيسي من اللاجئين والنازحين والمهاجرين الفلسطينيين (ما يزيد على أربعة ملايين) موجود في الأردن فعلا؛ بعضهم يحمل الجنسية، وبعضهم مقيم، وينتظرها؛ ــــ القسم الرئيسي من الدياسبورا العراقية السنيّة من غربي العراق (ما يصل، بالمجمل، إلى حوالي مليون) مستوطن في الأردن منذ سقوط النظام السابق، في إقامة دائمة أو كمقر دائم؛
ــــ القسم الرئيسي من اللاجئين والمقيمين السوريين السنّة من جنوبي سوريا (ما يصل، بالمجمل، إلى مليونين)، تحوّل، واقعياً، إلى الإقامة والاندماج.
وهناك، ثانياً، مشكلات تبدو بلا حل: ــــ الاستعصاء الأردني، المتمثل بالانشطار السياسي بين الأردنيين والأردنيين من أصل فلسطيني، والعجز المالي المستمر والمتصاعد لدولة رعائية وفاسدة، بلا موارد؛ ــــ الاستعصاء الفلسطيني، المتمثل في الفشل الكامل لمشروع الدولةالفلسطينية في الضفة والقطاع؛
ــــ الاستعصاء العراقي، المتمثل في الانشطار المذهبي، وفشل ادماج سنّة العراق في دولة وطنية جديدة؛ ــــ الاستعصاء السوري، المتمثل في تمرد مسلح شائك، اتخذ الطابع المذهبي الذي يميل، في النهاية، إلى “النصرة” و”داعش”، ويفشل، المرة تلو المرة، في التعبير عن نفسه من خلال قوة سياسية وازنة ومسؤولة ومعتدلة، خارج الدولة السورية؛ فالسر في صمود الأخيرة أنها لا تزال تحتكر التمثيل السياسي المتمدن لكل الطوائف والمذاهب، بما في ذلك الفئات الوسطى والعليا من السنة.
وهناك، ثالثاً، أزمة السنية السياسية في الهلال الخصيب، بين الراية الوهّابية والراية الداعشية، أي بين مرجعيتين متطرفتين مصدرهما المذهبي الفقهي واحد، وعنوانه التكفير وتطبيق الحدود الشرعية، بينما الجزيرتان الصغيرتان الباقيتان (حماس الاخوانية في غزة والمستقبل الليبرالي في لبنان) لا يمكنهما أن يتحملا مشروعا اقليميا.
وهناك، رابعاً، عناصر قوة بين يديّ الممثّل السني الثالث في الهلال الخصيب، العائلة الهاشمية؛ فهي تملك شرعية دينية بالنسب إلى آل البيت، وتملك دولة وجيشاً، وتحالفاً متيناً مع الولايات المتحدة، ومعاهدة مع إسرائيل، وغرفة العمليات الدولية الأساسية التي تدير الحرب بعشرة آلاف مسلّح (جيش السي آي إيه) في جنوبي سوريا، والنفوذ المتراكم في غربي العراق، والذكرى التاريخية لشرعية إمارة الحجاز.
على خلفية كل ذلك، ستقفز الفكرة “الابداعية” في رؤوس أدارتها الفرصة والمغامرة: المملكة العربية الهاشمية، التي ستحلّ المشكلات التالية معا: ــــ مشكلة الانشطار في الدولة الأردنية بين الهويتين، الأردنية والفلسطينية، وكذلك مشكلة الجنسية والتوطين الخ؛ فيتم الاستغناء عن تينك الهويتين، برفعها إلى هوية ثالثة: عربية سنية ــــ هاشمية. وكما أن الحجازيين والنجديين الخ يتبعون، في النهاية، هوية العائلة المالكة السعودية، كذلك، يتحوّل الأردنيون والفلسطينيون إلى “هاشميين،” في هوية واحدة تجمعهم مع السنّة العراقيين والسوريين (وربما، أيضاً، مع الحجازيين).
ــــ مشكلة الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية، من خلال تقاسم أراضيها بين إسرائيل و”المملكة الهاشمية” الضامنة للأمن الإسرائيلي. ــــ مشكلة الكتلة السنية العراقية التي ستتحول من كتلة منشقة في العراق، ومهاجرة في الأردن، إلى شريك سياسي في “المملكة الهاشمية”. ــــ مشكلة التمثيل السياسي السني في سوريا، خارج إطار الدولة الوطنية وخارج إطار القوى التكفيرية، معاً. اكتملت الصورة؛فماذا بقي؟ ــــ الاستعادة الاحتفالية لـ “الراية الهاشمية”. وهي راية شريف مكة، نميّ، العنابيّة، والمشتملة على البسملة والشهادتين والحمد؛ فهي تنافس راية آل سعود وداعش؛
ــــ الاستعادة الغامضة لإشارات الثأر (من آل سعود الذين طردوا الهاشميين من الحجاز، أم من الدواعش الذين يهددون المملكة، أم من كليهما معا؟).
ــــ التصعيد الميداني في جنوبي سوريا، والاعتراف، اعلامياً، بوجود غرفة عمليات التدخل الأمني في تلك المنطقة؛ ــــ التهديدات العسكرية الغامضة حول نفاد الصبر من “عجز الآخرين عن إزالة التهديد الإرهابي” في جوار المملكة؛ ــــ السعي إلى التدخّل في السويداء التي
ــــ بالنظر إلى كونها تقع في قلب الجنوب السوري وتتمايز مذهبيا عن محيطها ــــ تمثّل عقبة سياسية وأمنية وعسكرية، تتم معالجتها من خلال تهديدات “النصرة” والتلويح بالتدخل الإسرائيلي، ومنح وليد جنبلاط، وظيفة جرّ أهالي السويداء إلى الانضواء تحت جناح التمثيل الجغرافي السياسي السني؛
ــــ الشروع في نشر مقالات ــــ بالونات الاختبار، وإثارة النقاش حول تبني الراية الهاشمية بدلا من العلم الأردني، وحول الأردن الكبير… الخ، في سياق خلق حالة من الفوضى السياسية المقصودة، والغموض، والتحشيد الضبابي الهدف.
(الجزء الثاني)
اكتملت الفكرة، وبدأت التمهيدات، فماذا ينتظرون للذهاب نحو «المملكة العربية الهاشمية»، دولة السنة الموعودة في الهلال الخصيب؟ ــــ ضوءاً أخضر أميركياً؟ تدرس واشنطن اطلاق هذا الضوء، ولكن ليس لـ «المملكة العربية الهاشمية»، وإنما لتوريط القوات الأردنيةفي جنوب سوريا وغرب العراق؛ لا تحتاج هذه العملية إلى زج الكثير من القوات، بل إلى كتائب مغاوير واتصالات وقيادة ميدانية لإدارة المعارك لمسلحي «سي آي إيه»، والعشائر، انطلاقا من الحدود الأردنية ــــ السورية، والأردنية ــــ العراقية. إنما، حين يتعلق الأمر بالتمدّد على الأرض، والضم، فإن القوات المطلوبة للقيام بهذه المهمة ستكون، بالتأكيد، خارج امكانات الأردن، حتماً.
هكذا، تزدوج الخشية من ترابط واقع الوظيفة وأوهام الدور، بحيث يتم الغرق في المستنقع، بلا مخرج. ــــ جوهر الخطة الأميركية في سوريا يتمثّل في تحجيم الحضور التركي ــــ السعودي ــــ القطري، والامساك بالقوى على الأرض، في إطار تعديل موازين القوى لاجبار النظام السوري على التفاوض من موقع أضعف. لكن الحل في سوريا، ليس هاشمياً، وإنما هو، في النهاية، حل أميركي ــــ روسي، من دونه سيستمر الصراع، بلا حل، أو يتم حسمه بالقوة. ــــ وجوهر الخطة الأميركية في العراق، لا يتضمن، أيضاً، حلاً هاشمياً، بل تجذير الحضور الأميركي على الأرض، والتوصل، بعدها، إلى صيغة تسوية مع إيران.
في الحالتين، ليست العائلة الهاشمية طرفاً، بل حليفاً محلياً في سياق استراتيجية أميركية عامة. وهناك مَن يظن بأن تدحرج التطورات الميدانية وتنامي الخطر الإرهابي ضد الجميع، بمن فيهم أولئك الذين صنعوه، والمصلحة الإسرائيلية في شطب القضية الفلسطينية وعزل المقاومة، هي عوامل قد تحوّل الوظيفة إلى دور، والمشروع الأمني إلى مشروع سياسي، يضمن للدولة الرعائية، الموارد الكافية.
■ ■ ■
فكرة «المملكة العربية الهاشمية» ممكنة في عرض حاسبويّ مثير، لكنها، في الواقع الفعلي، لا مجال لتحققها.
أولاً، لأن المنطقة تخضع، في النهاية، لموازين القوى الرئيسية الفاعلة، وستكون الحلول هي نتاج تفاهماتها: الولايات المتحدة والاتحاد الروسي وإيران والسعودية.
وحين تجلس هذه الأطراف على مائدة التسويات، لن تكون عمّان بينها.
ثانياً، القوتان العربيتان السنيتان الرئيسيتان، السعودية ومصر، لن تقبلا، بحال من الأحوال، أن تنشأ دولة عربية سنية كبرى تنافسهما.
ثالثاً، القسم الغربي من العراق هو مجال أمني واقتصادي حيوي بالنسبة لبغداد وطهران؛ وهاتان قد تتفاهمان مع واشنطن على صيغة مناسبة لوحدة العراق العربي، لكنهما لن تفرّطا، تحت أي ظرف كان، بانفصال هذا الإقليم الحيوي خارج الهيكلية العراقية.
رابعاً، جنوب سوريا لا يقع توصيفه الجيوسياسي تحت بند الطائفية أو الجغرافيا المحلية، وإنما يتصنّف تحت بند الصراع الرئيسي في المشرق، أعني الصراع مع إسرائيل. وعلى ذلك، فهو قضية محور المقاومة كله، لا قضية حسابات حدودية أو عشائرية الخ، خامساً، ليس بإمكان الدولة السورية أن تتقلّص من دون أن تسقط وتتشظّى؛ فكل التخيلات عن قبول هذه الدولة بالانكفاء على أساس جغرافيا اجتماعية أو طائفية، ليست سوى تخيّلات ناجمة عن عدم ادراك الكينونة الوطنية ومرجعية الشرعية للجمهورية العربية السورية.
شرعية هذه الجمهورية ــــ التي يمثلها نظام وطني متجذر، بغض النظر عن أي وصف آخر ــــ مثلومة، أساساً، بما هو محتل أو منتزع من أراضيها من قبل إسرائيل وتركيا، فكيف، إذاً، تفعل حين يصل الاغتصاب إلى مشارف عاصمتها؟ الحرب لم تنته؛ وبعض المكاسب العسكرية للإرهابيين، لا تغيّر شيئا في التكوين السياسي للوطنية والدولة السورية التي لا تستطيع، بنيويا، أن ترسّم حتى حدود تماسّ داخلها؛ فإما تنتصر أو تنتهي. وعندها لن يكون هنالك إلا الفوضى الشاملة في الهلال الخصيب كله.
■ ■ ■
لكن «المملكة العربية الهاشمية» هي مشروع سياسي جدي، بقدر ما يتصل الأمر بتصفية القضية الفلسطينية على حساب الأردن، ولحساب إسرائيل؛ فالولايات المتحدة سترى، في هذه المملكة، مشروعاً واقعياً،
أولاً، لتوطين جميع الفلسطينيين المقيمين في الأردن، وتجنيسهم جميعاً،
وثانياً، لتوطين فلسطينيي سوريا (لجأ أكثر من 60 ألفاً منهم فعلاً إلى البلاد)،
وثالثاً، لحل النزاع الفلسطيني ــــ الإسرائيلي، المتعلق بالأرض والأمن؛ فالمملكة الجديدة، تتوصل إلى ربط كانتونات الضفة بها، بما يمنح اسرائيل معظم ما تريده من الأراضي، وكل ما تريده من الأمن.
لكن، هنا أيضاً، فإن حساب السرايا لا يطابق حساب القرايا؛ فهناك فارق نوعي بين ما تقدمه فئات من فلسطينييي الأردن من ولاء لقاء مكتسبات التوطين، وبين الإرادة الوطنية للشعب الفلسطيني، وقواه المتجددة، لنيل الحرية والاستقلال وإعادة بناء المجتمع الفلسطيني على أرض فلسطين.
العقبة الكأداء في مواجهة مشروع «المملكة العربية الهاشمية»، ستمثّلها تلك القاعدة الاجتماعية التي يظن القصر أنه يستطيع الاستناد إليها. وهو يستطيع، إلى هذا الحد أو ذاك، في سياق داخلي؛ لكن، بالنسبة لمشروع سياسي من شأنه إلغاء الشخصية الوطنية الأردنية، فسيواجه هذا المشروع تمرداً قاسياً. وربما يكون هذا الشعور من ردة فعل الوطنية الأردنية، هو وراء الغموض في طرحه. لم يفهم النظام الأردني ما الذي حدث في فترة الحراك الشعبي للأعوام 2010 ــــ 2013.
لم يتراجع هذا الحراك الراديكالي لأن مطالبه تحققت ــــ وهي لم تتحقق ــــ أو لأنه جرى حل مشكلات المالية العامة وتراجع دور الدولة الاجتماعي وتنامي الفساد ــــ وهي تفاقمت ــــ أو لأنه تمكن من قمعها ــــ وهو لم يكن قادراً ــــ ولكن الحراك الشعبي الراديكالي، انكفأ، واعياً، أمام الخطر المتمثل في الإخوان المسلمين، ومشروعهم الجوهري القائم على تعديل قانون الانتخابات لمصلحة الأردنيين من أصل فلسطيني، وإعادة ارتباط الضفة الغربية في الأردن، وإحلال الهوية الدينية الجامعة، محل الهويتين الوطنيتين في البلاد. لن تتمدّد «المملكة العربية الهاشمية» شبراً خارج حدود الأردن.
ستكون، إذا نجحت، صيغة لتوطين اللاجئين من فلسطين وسوريا والعراق، لا غير، وإلغاء الكيان الوطني الأردني؛ إلام ستقود هذه المغامرة؟ أولاً، انفجار السلم الأهلي والانجرار إلى صدامات أهلية يعلم الله، وحده، مداها؛ ثانياً، التحوّل من الهوية الوطنية المدنية إلى الهوية الدينية المذهبية، سيؤدي إلى تنامي الحواضن الاجتماعية للقوى التكفيرية والإرهابية؛ ثالثاً، التعاون مع ميليشيات مسلحة متمردة وإرهابية، يرتدّ، في كل الأحوال، على الجهات المتعاونة، وتنامي العلاقات مع جنوبي سوريا وغربي العراق، سيعمل كآلية لاستيراد وتوليد العناصر الإرهابية. رابعاً، كل ذلك، سيتفاعل وسط تمرد فلسطيني وتمرد أردني وانتفاضة اجتماعية، وتفاقم الأزمة المالية والاجتماعية والاقتصادية
■ ■ ■
رأسمال المملكة الأردنية هو الاستقرار. وقد يتوهّم مَن يخططون في غرف بعيدة عن الواقع، بأن ذلك الاستقرار من صنعهم، من دون أن يحسبوا أنه ناجم عن معادلة معقدة حساسة، محلياً وإقليمياً ودولياً. وأي اهتزاز رئيسي لهذه المعادلة، من شأنه أن يضع البلاد في مهب الريح.
https://telegram.me/buratha