لم تعد مسألة التجسس الأمريكي خافيةً على أحد، بحيث أصبحت هذه الطريقة من الطرق التي تعتمد فيها أمريكا على جمع معلوماتها الإستخبارية وبالتالي بناء سياستها الاقتصادية والسياسية بمساعدة تلك المعلومات، ولم تفرق وكالة الإستخبارات الأمريكية أو ما يعرف بـCIA بين شركائها أو أعدائها، لذلك جاءت الاعترافات التي أدلى بها "سنودن" صادمةً لأوروبا الحليف الكبير لواشنطن، حتى وصلت بها الحال الى التجسس على هاتف المستشارة الألمانية "ميركل ".
لكن ما هو الجديد في هذه القضية التي جعلت أوروبا وأغلب دول العالم والشركات تحت الرقابة الأمريكية ؟؟؟
التجسس الأمريكي على اوروبا
لا يزال مسلسل الموظف السابق في المخابرات الأمريكية "إدوارد سنودن" يلقي بظلاله على العلاقات الدبلوماسية بين البلدان الأوروبية وأمريكا، فلقد فجر قنبلة من العيار الثقيل عندما تحدث عن التجسس الأمريكي على العالم وخاصةً أوروبا، واضعاً أمريكا في زاوية الانتقاد الاوروبي التي أظهرت المعطيات عمليات التجسس على كل اوروبا من صغيرها الى كبيرها ولم يستثن حتى المستشارة الألمانية "ميركل" التي كانت وكالة CIA قد تجسست على هاتفها المحمول بالإضافة الى وزارة الخارجية وشخصيات أخرى معروفة.
إن المعلومات التي كشف سنودن النقاب عنها زعزعت مصداقية الحكومة الأمریكية امام الشعب الأمریكي نفسه الذي بات أقل ثقة بالحكومة وجعلت شعبية الرئيس أوباما في أدنى مستوياتها، وفي الخارج جعلت أقرب حليفات أمريكا الأوروبيات في حالة حرج رغم أنها غير بعيدة عن ممارسة ذات الفعل الامریكي، الا انها شعرت بالإحراج على تجسس أمريكا على حليفاتها المقربات منها، الامر الذي دفع دول الاتحاد الاوروبي الى توحيد موقفها بهذا الشأن وطلب توضيحات من الإدارة الأمریكية، كما وجعلت الصين تصف أمريكا بالنذالة لتجسسها عليها في الوقت الذي تدعي ان الصين تمارس القرصنة ضدها، فيما طالبت دول أمريكا الجنوبية بضمان الامن المعلوماتي منتقدة برنامج التجسس الامریكي وداعية الى وضع حدود للتعاون مع أمريكا .
التجسس الأمريكي _الألماني الجديد (أوروبا تتجسس على نفسها )
إن المستجد في الموضوع هو انضمام المانيا الى عمليات التجسس التي أثارت زوبعةً واسعةً في الإعلام الألماني والأوروبي، وهذا ما فضحته صحيفة "ديرشبيغل" الالمانية في تقرير لها يوم ١ مايو ٢٠١٥ أشارت فيه إلى حذف موظف في جهاز الاستخبارات الخارجية الألماني لاثني عشر ألف طلب قدمتها وكالة الأمن القومي الأمريكية للتجسس على مسؤولين في وزارة الخارجية الفرنسية والاتحاد الأوروبي. وكشفت تقارير يوم ٢٤ ابريل ٢٠١٥، تشير إلى أن هيئة الإستخبارات الألمانية (B.N.D) ، ساعدت دون دراية قوة أجنبية، في إشارة الى وكالة الأمن القومي الأمريكية (N.S.A) لمراقبة شركتي الفضاء والدفاع الجوي الأوروبيتین “ايدس″ و”يوروكوبتر” ووكالات فرنسية، في حدوث صدمة في برلين، في واحدة من أكبر الأزمات التي تضرب هيئة الاستخبارات الألمانية في تاريخها. وأعقبتها اتهامات يوم الأول من مارس ٢٠١٥ بتورط الإستخبارات الألمانية ايضا بالتجسس على النمسا وفرنسا. يذكر أن شركة "أيدس" هي صانعة أنظمة الأقمار الصناعية والفضاء والصواريخ وتهيمن على مجموعة الـ (MBDA) منذ عام ٢٠٠١. وهذا يعني ان وكالة الامن القومي جيرت وكالة الاستخبارات الالمانية الخارجية بالكامل الى صالحها وهو امر خطير، يعيد الحرب الباردة ويزعزع ثقة أوروبا في المانيا من جانب ومع واشنطن من جانب اخر. وقال “أندري هان” وهو عضو بالتحقيق إنه ربما يكون تم ارتكاب جريمة الخيانة هناك. أما “باتريك زينسبورغ”، رئيس لجنة تقصي برلمانية في مسألة تجسس الوكالة فأكد أن لجنته تتبادل النتائج مع المدعي .
وفي معرض الرد الرسمي الالماني دافعت المستشارة الالمانية انجيلا ميركل عن المخابرات الألمانية وقالت إن مكتبها سيتعاون تعاونا كاملا مع تحقيق برلماني في هذا الشأن .
وفي أول تصريحات علنية تدلي بها عن هذه المسألة ذكرت ميركل أنها لا تزال تعتقد أنه من غير المقبول أن تتجسس الدول الصديقة على بعضها البعض في اشارة إلى حيرتها من تقارير نشرت في ٢٠١٣ عن أن وكالة الأمن القومي الأمريكي تتجسس على هاتفها المحمول .
وأضافت "لكن من ناحية أخرى تعمل أجهزة المخابرات لضمان السلامة العامة وستبذل الحكومة الالمانية كل ما في وسعها لضمان القيام بهذه المهمة ."
وتابعت "وهذه القدرة على تنفيذ واجباتها في مواجهة تهديدات الارهاب الدولي تتم بالتعاون مع أجهزة مخابرات أخرى وهذا يتضمن أولا وقبل كل شيء وكالة الأمن القومي الأمريكي .
التجسس الجديد طال الشركات الكبرى
لم تبق عمليات التجسس ضمن الإطار السياسي، بل تعداه الى الاقتصادي حيث عمدت CIA الى الولوج داخل بيانات الشركات الكبرى وفك تشفيرات الداتا، مثل شركة أبل حيث كشفت وثائق سرية للغاية نشرها موقع الأخبار على الإنترنت، “إنترسبت ” Intercept ، أن “وكالة الاستخبارات المركزية” الأمريكية CIA قادت جهودا ترمي إلى تقويض تقنيات التشفير المستخدمة في هواتف أبل، وكذلك إدراج أبواب خلفية للمراقبة السرية في التطبيقات. وتُظهر الوثائق التي جرى الكشف عنها حديثا من نظم داخلية تابعة لوكالة الأمن القومي الأمريكية NSA أساليب مراقبة سرية كانت عُرضت في مؤتمرها السنوي، المعروف باسم Jamboree. علماً أن أبل كانت شريكة في برنامج التجسس الشهير “بريزم ” Prism ، الذي يتيح لوكالة الأمن القومي وحلفائها الحصول على معلومات المستخدمين. وهذا يعني ان وكالات الإستخارات تقوم بالاستفادة من الشركات التكنولوجية وفي الوقت نفسه تتجسس عليها. وفي معرض متصل قررت شركة "إيرباص" الفرنسية لصناعة الطيران، تقديم شكوى لألمانيا بعد تجسس أجهزة الاستخبارات هناك على الشركات الفرنسية وقصر الإليزيه في باريس في انٍ واحد. هذه التجاوزات القانونية تعدت أكثر من ٦ شركات عالمية وأوروبية معترضةً بيانات المستخدمين فيها، خاصةً شركات الاتصالات التي جعلت جميع المستخدمين عرضةً للتجسس ولفضح بياناتهم الشخصية .
لقد فاجأ الصمت الألماني عام ٢٠١٣ متابعين كثر لهذا الملف، لكن بعد ما نشر من تعاون الإستخبارات الأمريكية والألمانية توضحت الصورة أكثر، ليتبين أن الجميع في أوروبا والعالم عرضة للتجسس الامريكي والأوروبي متخطين القوانين الدولية لحماية الخصوصية تحت ذرائع مكافحة الارهاب، لكن السؤال الذي يطرح نفسه لماذا يتم التجسس على أشخاص وسیاسيین معروفين في أوروبا أو على اجتماعات اقتصادية كما حدث مع الاتحاد الأوروبي طالما الهدف ضد الإرهاب؟ واذا كانت أمريكا واثقة من حلفائها فلماذا تقوم بالتجسس عليهم؟ لكن من خلال الأهداف التي سنعرضها لاحقاً يتبين الغرض من عمليات التجسس الاستخباراتي .
اهداف التجسس
اولاً: تحاول أمريكا وأوروبا من خلال التجسس الوصول الى كيفیة تفكیر الدول حول قضيةٍ ما، وما هي نقاط القوة التي تعتمدها ونقاط الضعف التي تهابها، وخاصةً فيما يتعلق بالأزمات الأمنية والعسكرية، بهدف الاستفادة منها بحسب حاجته .
ثانياً: احياناً تكون عمليات التجسس ردة فعل، كما حدث بين واشنطن وباريس عندما تحدثت "مادلين اولبرايت" بأن فرنسا كانت تجسست على محادثاتها، عندما كانت سفيرة لبلادها في الأمم المتحدة خلال الفترة من ١٩٩٣ إلى ١٩٩٧، لذلك قامت أمريكا بالتجسس على قصر الاليزة منذ ذلك الوقت حتى الان .
ثالثاً: إن عملية جمع المعلومات تساعدها على التحكم في أسعار السوق وتحديد الكميات المعروضة والمطلوبة ومعرفة اتجاهاتها وبالتالي السيطرة غير المباشرة على اقتصاد الدول الاخرى ومعرفة بيانات اقتصادها، إلى جانب الأهداف التي تمكّنها من الحصول على معلومات تكنولوجيّة وتقنيات جديدة في المجالات الصناعية والعلمية المختلفة، وخاصةً تلك التي تحوزها الدول الصناعية المتقدمة كما تفعل وكالة ناسا .
رابعاً: تقوم الاجهزة العالمية في بعض الأحيان الى رصد بعض الأهداف "الدسمة" وجمع المعلومات الشخصية وعلاقاته الاجتماعية من أجل الاستفزاز وإخضاعه لصفقات أو حتى إرغامه على التنازل في مواضيع محددة، كما حدث مع صائب عريقات كبير المفاوضين الفلسطینيين عندما قام جهاز الإستخبارات الإسرائيلي بتصويره خلال علاقة حميمة مع وزيرة الخارجية "ليفني" عندما كانت تعمل في الموساد والتي استفاد منها الموساد لاحقاً في المفاوضات وإرغامه على التنازل لصالح الكيان الاسرائيلي .
إن انكشاف فصول متطورة لفضائح التجسس الأمریكي الأوروبي على دول في العالم وخاصةً الحليفة والصديقة، توضح بصورة واضحة مدى إصرار أجهزة الإستخبارات على السيطرة على العالم إلى أطول مدة ممكنة، في إطار التنافس القائم بين واشنطن وأوروبا وباقي أقطار العالم على مختلف الأصعدة السياسية والعسكرية وخاصة السيطرة الاقتصادية. بسبب أنها ترى نفسها إلى حد الآن بأنها دولة عظمى، وفي اعتقادها بأنه مسموح لها بعمل أي شيء وبدون قيود- أدبيّة أو أخلاقيّة- وإن أضرّ ذلك العمل بكل شيء .
وهذا يشمل كافة العمليات التجسسية والتنصتية، التي لن تكلّفها في حال انكشافها سوى القليل من الاعتذار، وبالتالي لن تكون مضطرّة بالتعهّد للكف عن مواصلة تجسسها، وإن تعلق الأمر بالمزيد من الفضائح .
18/5/150506
https://telegram.me/buratha
