انتهى الصخب الإعلامي الذي تزامن مع الحملات الانتخابية وخف الضجيج وخرجت الأنفاس من احتباسها بعد أن انتهت العملية الانتخابية وخرج الشعب العراقي منتصراً لعمليته السياسية ومنتصراً لرغبته في الانعتاق من ركام السنين الماضية، وبغض النظر عن كل الملاحظات والخروقات التي رافقت العملية الانتخابية، فإن الجميع قد خرج من معركة التنافس الانتخابي إلى معركة تشكيل الحكومة، وآليات هذه المعركة تختلف عن آليات المعركة السابقة، إذ إن تلك كان الشعب هو المعني بها، ولهذا تمت وسط أجواء الدعاية والدعاية المضادة، وقد تضمنت الكثير من الضربات فوق الحزام وتحت الحزام، ولكن آلية معركة تشكيل الحكومة تختلف تماما فكلها سيجري في داخل الكواليس، والجدل الإعلامي الذي سيصاحب المشهد هو للضغط النفسي بغية دفع الجهة المتنافسة لارتكاب الخطأ المرجو منه من قبل الطرف المنافس له ليس إلا.
ويمكن لنا ان نلاحظ عدة معالم أساسية في المشهد المستخلص من المشهد الانتخابي:
أولاً: إن الإسلاميين في العراق هم الذين اكتسحوا الغالبية العظمى من المقاعد الانتخابية في الساحتين الشيعية والسنية، فلو كان المر ملحوظا في الائتلاف الوطني ودولة القانون، فإن القائمة العراقية تشير الأرقام المستخلصة إن العديد من مرشحيها الفائزين ينتمون إلى التيار الإسلامي السني والشيعي، وبالتالي فإن الجهد الذي بذلته أمريكا وبريطانيا وإسرائيل لكي يتم تقوية المشهد العلماني قد باء بالفشل الكبير.
ثانياً: إن النتائج المستخلصة تشير إلى إن قوائم البولاني وأياد جمال الدين لم يك لها نصيب يذكر، ويبقى للمرء أن يقرأ سبب دعمهما من قبل الدول الداعمة (أمريكا عبر السعودية)، فهم من المقطوع به لم يتوقعوا منهم أن يفوزوا ولكنهم في أغلب الظن تم طرحهم للتشويش ولزيادة الانقسام في الساحة الشيعية تحديداً.
ثالثاً: إن الوجود الشيعي في البرلمان فاز هذه المرة أكثر من نسبته في البرلمان السابق، فلحد الان تشير الأرقام إن نسبة المشاركة الشيعية في البرلمان الحالي من الائتلافين تزيد على نصف البرلمان بقليل، بينما كانت نسبتهما في السابق أقل من النصف.
رابعاً: إن الأرقام التي حظيت بها الكتل الفائزة هي متقاربة بحيث لا يمكن في غالبية الأحيان تأمين نصاب الأغلبية المطلقة (نصف+ واحد) في البرلمان إلا بناء على اتفاق لما لا يقل عن 3 كتل برلمانية، مع الأخذ بنظر الاعتبار حالة الغياب التي ستعود للبرلمان القادم كما كانت في السابق.
خامساً: إن الأرقام المتقاربة للكتل ستفرض ثقلا متميزا في تشكيل الحكومة القادمة، ولدينا هنا اعتبارين يجب أن يتم الالتفات إليهما مع الإشارة إلى إن العملية السياسية تتم بواقعية شديدة وقاسية في بعض الأحيان بعيداً عن الأمنيات والتمنيات، والاعتبارين هما:
أولا: الاعتبار القانوني
نحن أمام 3 حقائب لا أعتقد إنها قابلة للتفكيك، فعلى الجميع حملها معا، وهذه الحقائب رئاسة الجمهورية ورئاسة الوزراء ورئاسة مجلس النواب، وستكون وفق الترتيب التالي حتما:
انتخاب هيئة رئاسة مجلس النواب (أغلبية مطلقة لأعضاء البرلمان)
انتخاب هيئة رئاسة الجمهورية (ثلثي أعضاء المجلس)
انتخاب رئيس الوزراء (أغلبية مطلقة لأعضاء البرلمان)
والمشهد قطعا سينشد باتجاه رئاسة الجمهورية، فتأمين عدد الثلثين يحتاج لتوافق كبير قد لا يأتي به التحالف بين الأكراد ودولة القانون والائتلاف الوطني، فلو أخذنا الأرقام لحد اليوم فإن الائتلافين قد يحصلا على (160 إلى 170) مقعدا يزيد قليلا أو يقل قليلاً، والمشكلة إن الأكراد لم تتبق قوتهم كما كانت إذ إن التغيير النوشيرواني قد أخذ منهم مأخذا جدياً كما تشير المعلومات، وبالتالي فإن الرقي للرقم المطلوب سيكون بحاجة لمزيد من التحالفات ولو مع الكيانات الصغيرة جدا كالتوافق أو المنفردة مثل الكوتا المسيحية والمندائية والشبك والإيزدية.
وبناء عليه فإن العثور على توافق بهذا الحجم هو وحده الذي سيسمح بانتخاب رئيس وزراء جديد للعراق، وعليه فإن الاستحقاق الدستوري لموقع الكتلة الأكبر لا يمكن حصوله إلا من خلال توافق من هذا القبيل، وهذا أمامه عقبات كبيرة، مما يعني إن الكتلة الأكبر لا يمكن أخذها من خلال الأرقام الانتخابية وإنما جزما ستؤخذ من تشكيل الكتلة الأكبر بين الكتل الفائزة، ولهذا فإن فوز دولة القانون لوحده لن يعطيها هذا الاستحقاق، ولو حصل فإنه سيحصل شكليا فقط، وواجب دولة القانون الآن أن تفتش في تحالفاتها لكي تؤمن العدد المطلوب لها، وهو عسير للغاية.
ثانيا: الاعتبار السياسي
لقد فاز المالكي برئاسة الوزراء سابقا وهو يملك في الائتلاف السابق 8 أصوات فقط، ولكن التحالفات التي نظمها الائتلاف جعلته يفوز بالمنصب، ولهذا فإن اللاعب الحقيقي في مجال تشخيص المناصب القادمة ليس هو الرقم الانتخابي، وإنما هو القدرة على خلق تحالفات سياسية تتمكن من تحشيد الأصوات المطلوبة، وسنرى المشهد كالتالي:
الدستور ينص على الكتلة الأكبر، والكتلة الأكبر للوهلة الأولى هي دولة القانون لو استمرت وتيرة الأرقام الحالية على شاكلتها ليوم غد، وهي في أحسن الظروف لن تفوز بأكثر من تسعين مقعدا، ولهذا فلو أجرينا الاستحقاق الدستوري فسيجري تسميتها كمرشحة لتعيين رئيس الوزراء ولمدة شهر فقط، وبعدها سينتهي هذا الاستحقاق إن لم تستطع أن تؤمن الأصوات المطلوبة، وسيترك عندئذ لمن سيأتي بأصوات تمكنه من الإتيان بهذه الأصوات.
ولا نعتقد إن جميع الأطراف ستكون مستعدة لعبور أول عتبة في تشكيل الحكومة إن لم تضمن أن تسير الأمور كلها وفق منطق التحالفات، فلن يتم ترشيح رئيس مجلس ولا نائبين له إن لم يتم التأكد إن الحقائب الثلاثة محمولة معاً ويجري عليها التصويت سوية.
ووفقاً للمنطق الواقعي فإن حظوظ دولة القانون ستكون هي الأقل من بين جميع الكتل نتيجة لتجربتها السيئة جداً مع حلفائها قاطبة
محسن علي الجابري
النجف الأشرف ـ ثلمة العمارة
https://telegram.me/buratha