الدكتور فاضل حسن شريف
عن شكل القرآن يقول الدكتور محمد حسين علي الصغير في كتابه تأريخ القرآن: وكان هذا العمل من أبي الأسود متميزاً بقيمة فنية أمكن بوساطتها التمييز بين الحالات الإعرابية بنقط مختلفة المواضع بعد أن كانت هملا ، وبلون يخالف الأصل المدون به المصحف زيادة في الضبط والتفريق. وفي دوافع أبي الأسود، ومشجعاته على هذا العمل الضخم روايات وتوجيهات من الإمام علي عليه السلام سمع قارئا يقرأ "إن الله بريء من المشركين" (التوبة 3) بكسر اللام في رسوله وهو كفر ، فتقدم إلى أبي الأسود (حتى وضع للناس أصلاً ومثالاً وبابا وقياسا، بعد أن فتق له حاشيته، ومهّد له مهاده، وضرب له قواعده).
وعن سلامة القرآن يقول الدكتور محمد حسين الصغير رحمه الله: إن النبي صلى الله عليه وآله وسلم لم يرد الحصول على تأييد أهل الكتاب بالمعنى الذي أشار إليه، وإنما هو تعبير عن وحدة الديانات والشرائع والأنبياء في جميع الأطوار، وأن أصول هذه الديانات واحدة، وإن تغيير هذه الحقيقة الواقعة يعتبر تحريفا بالمعنى الذي أشار إليه القرآن "يحرِّفونَ الكَلِمَ عن مواضعهِ" (النساء 46). الافتراض وقوع التحريف في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فباطل إجماعاً، بما تبين لنا من مدارسة ظاهرة الوحي ومعطياتها، فقد ثبت ان الوحي منفصل عن النبي صلىاللهعليهوآلهوسلم في شخصيته المستقلة، وأنه مؤتمن على الرسالة، وقد أداها متكاملة غير منقوصة بنص القرآن الكريم "اليومَ أكمَلْتُ لكم دينَكُمْ وأتممتُ عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلامَ ديناً" (المائدة 3). فلو كان هناك ما يمنع من الكمال، لما أيده القرآن، وأي مانع عنه أفظع من إباحة التحريف في النص الذي ثبت إعجازه، وكان دليل رسالته، وبرهان دعواه، فهذا الافتراض إذن مرفوع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وعن البيئة التي رافقت القرآن في عصره إذ كان الحاكم والمشرع والآمر. إن ما قدمه المهاجرون والأنصار للإسلام والقرآن يعد مفخرة وأي مفخرة بحد ذاته، فما هو الذنب الذي اقترفه هؤلاء في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم فرادى أو مجتمعين ، حتى ينزل فيهم ما يسمها بالفضائح، وهب أن معدودين تجاوزوا حدودهم ، فما نصنع بأولئك الذين يقول فيهم القرآن جهارا نهارا في سورة الفتح: "محمَّدٌ رسولُ اللهِ والذينَ معه أشدَّاءُ على الكفَّارِ رحمآءُ بينَهُم تراهم ركَّعاً سُجَّداً يبتغونَ فضلاً من اللهِ ورضواناً سيماهُمْ في وجوهِهِم من أثر السُّجودِ ذلك مَثَلُهُم في التَّوراةِ ومَثَلَهُم في الإنجيلِ كزرعٍ أخرج شطئَهُ فأزَرَهُ فاستغلَظَ فاستوى على سوقِهِ يُعجِبُ الزُّرّاعَ ليغيظَ بهمُ الكُفّارَ وَعَدَ الله الذين امنوا وعَمِلوا الصَّالحاتِ منهم مغفرةً وأجراً عظيماً" (الفتح 29).
ويستطرد الدكتور الصغير عن سلامة القرآن قائلا: إن التوراة والإنجيل لم يتعهد الله سبحانه وتعالى كشأن الكتب السماوية الأخرى بحفظهما، ولا بصيانتهما، وإنما أوكل ذلك البشر، محنة منه وابتلاء على طاعته أو معصيته، فاستحفظ على ذلك الأحبار والربانيين بدلالة قوله تعالى: "إنّا أنزلنا التوراةَ فيهَا هدىً ونورٌ يحكُمُ بها النبيُّونَ الذينَ أسلَمُوا للَّذينَ هادُوا والرَّبَّانيُّونَ والأحبارُ بما استُحفظُوا من كتابِ اللهِ وكانُوا عليهِ شهدآءَ فلا تخشَوا النَّاسَ واخشونِ ولا تشتروا بآياتي ثمناً قليلاً ومن لم يحكُم بما أنزلَ اللهُ فأولئك هم الكافرونَ" (المائدة 44). إن القرآن نزل على سبيل الإعجاز الدائمي فوجب حفظه تأبيداً، وتلك الكتب جاءت للبيان التوقيتي فلا يستلزم حفظها كحفظه، ولم يرد أنها نازلة على سبيل الإعجاز والتحدي. وبذلك تحقق لسلامة القرآن الكريم عاملان: الكتابة في المصحف كما نزل ، والتلاوة على الأسماع من خلال المصحف المرتل تسجيلاً كاملاً، محافظا فيه على أصول القراءة، وشرائط العربية، وترتيل الصوت، ذلك مضافاً إلى الحفظ المتجاوب معه في الصدور. لقد تحقق في هذا الزمان بالذات ، وهو زمان ابتعد عن القرآن ، ما لم يتحقق له في الأزمان السالفة ، من ضبط وشكل، ورسم، وقراءة ، وتلاوة، وطباعة، وعناية من كل الوجوه، بما يتناسب مع التأكيد الإلهي بقوله تعالى "إنّا نحنُ نزَّلنَا الذكْرَ وإنَّا له لحافظونَ" (الحجر 9).
https://telegram.me/buratha