الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في کتاب تأريخ القرآن للدكتور محمد حسين علي الصغير عن جمع القرآن: لا ريب أن العرب كانت أمة أمية ، إلا أن هذه الأرقام لا تتناسب مع ذكر القرآن للكتابة وأدواتها ومشتقاتها بهذه الكثرة. على أن للأمية دلالات أخرى لعل من أفضلها تعليلا ما رواه ابن أبي عمير، عن معاوية بن عمار، عن الإمام جعفر بن محمد الصادق عليه السلام في تفسير قوله تعالى "هوَ الذي بعثَ في الأميينَ رسولاً" (الجمعة 2). قال الصادق: (كانوا يكتبون، ولكن لم يكن معهم كتاب من عند الله ولا بُعث إليهم رسول فنسبهم الله إلى الأميين). ومهما يكن من أمر فأمية من أسلم، وقلة الكتبة، وتضاؤل وسائل الكتابة، لم تكن موانع تحول دون تدوين القرآن. لقد ورد لفظ الكتاب في القرآن والسنة النبوية القطعية الصدور، للدلالة على ماله كيان جمعي محفوظ ، والإشارة بل التصريح في ذلك الكتاب إلى القرآن الكريم، فقد استعمل لفظ الكتاب في القرآن بهذا الملحظ في أكثر من مائة موضع، ونضرب لذلك بعض النماذج: أ ـ "ذلكَ الكتابُ لا ريبَ فيهِ هدىً للمتقينَ" (البقرة 2). ب ـ "نزَّلَ عليكَ الكتابَ بالحقِّ" (ال عمران 3). ج ـ "هوَ الذي أنزلَ عليكَ الكتابَ" (ال عمران 7). د ـ "إنّا أنزلنا إليكَ الكتابَ بالحقِّ" (النساء 105). ه ـ "وأنزلنا إليكَ الكتابَ بالحقِّ" (المائدة 48). و ـ "وهذا كتابٌ أنزلناهُ مباركٌ " (الانعام 92). ز ـ "كتابٌ أنزِلَ إليكَ" (الاعراف 2). ح ـ "الر تلكَ آياتُ أحكمَتْ ءاياتُهُ" (يونس 1). ط ـ "الر كتابٌ أحكمَتْ ءاياتُهُ" (هود 1). ي ـ "الر كتابٌ أنزلناهُ إليكَ" (ابراهيم 1). أفلا يدل هذا الحشد الهائل إلى أن القرآن كان كتاباً مجموعاً يشار إليه.
ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله عن جمع القرآن قائلا: قد يقال بأن جمع القرآن في عهد النبي صلى الله عليه وآله وسلم هو حفظه في الصدور، وهذا وإن كان دعوى لا دليل عليها، فإن من أبسط لوازمها أن الحفظ في الصدور مما يستدعي توافر النص بين الأيدي وتداوله للمعارضة بين ما يحفظ وبين ما هو مثبت، ولا دليل أنهم كانوا يحفظونه مباشرة عند تلاوة النبي صلى الله عليه وآله وسلم له، إذ هذه الميزة من مميزات الرسول الأعظم فبمعارضة جبرئيل عليه السلام له يحفظ النص القرآني ويستظهره وبتعهد من الله له كما دل على ذلك قوله تعالى "لا تحرِّكْ بِهِ لسانكَ لتجعلَ بِهِ * إنَّ علينَا جمعَهُ وقرءانَهُ" (القيامة 16-17). والكثرة الكاثرة كانت تحفظ القرآن بمدارسته وتكرار تلاوته، وأقل ما في ذلك أن تقارن الحفظ والإستظهار بما لديها من نصوص قرآنية، وهذا هو المتعين من قبل المسلمين نظراً لورعهم واحتياطهم من جهة، وتعبيراً عن شغفهم بالقرآن وحبهم لمتابعته من جهة أخرى، فقد يظهر من كثير من الروايات كونهم يتحلقون لتلاوته ليلاً. ومن المعلوم الذي لا خفاء به أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قد كان يؤم أصحابه في الصلوات الخمس لا يخل بذلك في سفر ولا حضر، فقرأ في الركعتين من كل صلاة بسورة مع فاتحة الكتاب، ويسمعهم ذلك في الغداة والعشي. فماذا كان يسمعهم ليت شعري، إن كانت آيات القرآن متفرقة ولم تنظم السور حتى أنها نظمت في أيام أبي بكر وعثمان، فبماذا كان يقرع العرب حيث يقول الله تعالى "فأتوا بعشرِ سورٍ مثلِهِ مفترياتٍ" (هود 13). وذلك مما نزل بمكة، ثم قال تعالى "فأتوا بسورةٍ من مثلِهِ" (البقرة 23). ونزل ذلك بالمدينة، ولو كان على ما خيلوا لم يكن العباس ابن عبد المطلب يهرب يوم حنين حيث انهزم القول فيقول: يا أصحاب سورة البقرة، وسورة آل عمران، هذا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. يستدعيهم بذلك إليه.
وعن دعوة المستشرقين حول تحريف القرآن يقول الاستاذ محمد حسين الصغير في كتابه: وكل هذه الاعتبارات بما فيها ما أكد المستشرقون تتضمن تلويحاً خفياً بل تصريحاً جلياً بأن القرآن قد مرت عليه عهود وعصور وهو بعد لم يدون، وإنما دون بعد ذلك اعتماداً على نصوص قد تكون ناقصة أو ممزقة، وعلى روايات شفوية قابلة للخطأ والسهو والنسيان، للقول من وراء هذا بالتحريف وهو ما نرفضه جملة وتفصيلاً. وإذا سلمنا بأن جمع القرآن قد تم بعهد الصحابة، وأنهم قد استشهدوا على إثباته بشاهدين وأن آيات لم يجدوها إلا مع معينين بالذات، فعن زيد قال: كتبت المصاحف فقدت آية كنت أسمعها من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم فوجدتها عند خزيمة بن ثابت الأنصاري. "مِنَ المؤمنينَ رجالٌ صدَقُوا ما عاهَدُوا الله عليهِ" (الاحزاب 23) وكذلك آية "لقد جاءكُمْ رسولٌ من أنفسكُمْ" (التوبة 128) وغيرها وغيرها. فلا يصح حينئذ عد آيات القرآن في أماكنها من السور، ولا السور من المصحف توقيفياً، وإنما هو باجتهاد من الصحابة، كما تدل عليه تضافر روايات الجمع في ذلك، وإذا قلنا بتوقيف الآيات في السور، والسور من المصحف، فلا بد أن نقول إن القرآن قد جمع على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وهو ما نميل إليه ونرجحه في ضوء ما تقدم. قال البيهقي: وأحسن ما يحتج به أن يقال: إن هذا التأليف لكتاب الله مأخوذ من جهة النبي صلى الله عليه وآله وسلم وأخذه عن جبرائيل عليه السلام.
وعن قراءات القرآن يقول الدكتور محمد حسين علي الصغير في كتابه: لقد كان الاختلاف في القراءة شائعاً ، فأراد النص التدويني للمصحف العثماني، قطع ذلك الاختلاف، فكان سبيلاً إلى التوحيد، وهذا لا يمانع أن ينشأ بعد هذا التوحيد بعض الخلاف الذي جاء اجتهاداً في أصول الخط المكتوب، فنشأ عنه قسم من القراءات. إن ما يستدل به حول تفنيد موقع الكتابة المصحفية من نشوء بعض القراءات يكاد ينحصر بالاستدلال بحديث: (إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف، فاقرأوا ما تيسر منه) ليقال بأن الاختلاف روائي وليس كتابيا، والحق أن المسلمين إلى اليوم لم يصلوا إلى مؤدى هذه الرواية، ولا يمكن أن يحتج بغير الواضح، فما زال الخلاف قائماً في معنى هذا الحديث وترجمته، على أنه معارض كما سترى بحديث إنزال القرآن على حرف واحد. على أنه لا دلالة في هذه الحروف السبعة على القراءات السبعة إطلاقاً، وإذا كان القرآن قد نزل على سبعة أحرف. فالإنزال ـ حينئذ ـ توقيفي، ووجب على الله تعالى حفظه وصيانته، لأنه ذكر، والذكر قرآن، والقرآن مصان لقوله تعالى "إنّا نحنُ نزّلنا الذِّكرَ وإنّا له لحافظونَ" (الحجر 9).
https://telegram.me/buratha