الدكتور فاضل حسن شريف
عن دلالة الفزع الهائل يقول الدكتور محمد حسين علي الصغير في كتابه الصوت اللغوي في القرآن: استعمل القرآن طائفة من الألفاظ، ثم اختيار أصواتها بما يتناسب مع أصدائها، واستوحى دلالتها من جنس صياغتها ، فكانت دالة على ذاتها بذاتها، فالفزع مثلاً، والشدة، والهدة، والاشتباك، والخصام، والعنف، دلائل هادرة بالفزع الهائل والمناخ القاتل. 1ـ قف عند مادة صرخ في القرآن، وصرخة الصّيحة الشديدة عند الفزع ، والصراخ الصوت الشديد. لتلمس عن كثب، وبعفوية بالغة: الاستغاثة بلا مغيث، في قوله تعالى "وهم يصطرخون فيها ربنا أخرجنا نعمل صالحاً" (فاطر 37). مما يوحي بأن الصراخ قد بلغ ذروته، والاضطراب قد تجاوز مداه ، والصوت العالي الفظيع يصطدم بعضه ببعض ، فلا أذن صاغية ، ولا نجدة متوقعة، فقد وصل اليأس أقصاه، والقنوط منتهاه، فالصراخ في شدة إطباقه ، وتراصف إيقاعه ، من توالى الصاد والطاء، وتقاطر الراء والخاء، والترنم بالواو والنون يمثل لك رنة هذا الاصطراخ المدوي (والاصطراخ الصياح والنداء والاستغاثة : افتعال من الصراخ قلبت التاء طاء لأجل الصاد الساكنة قبلها، وإنما نفعل ذلك لتعديل الحروف بحرف وسط بين حرفين يوافق الصاد في الاستعلاء والإطباق، ويوافق التاء في المخرج). والإصراخ هو الإغاثة، وتبلية الصارخ، وقوله تعالى "ما أنا بمصرخكم وما أنتم بمصرخي" (ابراهيم 22).تعني البراءة المتناهية ، والإحباط التام، والصوت المجلجل في الدفع، فلا يغني بعضهم عن بعض شيئاً، ولا ينجي أحدهما الآخر من عذاب الله، ولا يغيثه مما نزل به، فلا إنقاذ ولا خلاص ولا صريخ من هذه الهوة، وتلك النازلة، فلا الشيطان بمغيثهم، ولا هم بمغيثيه. والصريخ في اللغة يعني المغيث والمستغث، فهو من الأضداد، وفي المثل: عبد صريخه أمة، أي ناصره أذل منه. وقد قال تعالى "فلا صريخ لهم ولا هم ينفذون" (يس 43). فيا له من موقف خاسر، وجهد بائر، فلا سماع حتى لصوت الاستغاثة، ولا إجارة مما وقعوا فيه. والاستصراخ الإغاثة، واستصرخ الإنسان إذا أتاه الصارخ، وهو الصوت يعلمه بأمر حادث ليستعين به. قال تعالى "فإذا الذي استنصره بالأمس يستصرخه" (القصص 18). طلب للنجدة في فزع ، ومحاولة للإنقاذ في رهب، والاستعانة على العدو بما يردعه عن الإيقاع به، وما ذلك إلا نتيجة خوف نازل، وفزع متواصل، وتشبث بالخلاص.
ويستطرد الدكتور الصغير رحمه الله عن دلالة الفزع الهائل قائلا: 2ـ وما يستوحى من شدة اللفظ في مادة (صرخ) يستوحى بإيقاع مقارب من قوله تعالى "ضرب الله مثلا رجلا فيه شركاء متشاكسون" (الزمر 29) لتبرز "متشاكسون" وهي تعبر لغة عن المخاصمة والعناد والجدل في أخذ ورد لا يستقران ، وقد تعطي معناها الكلمة : متخاصمون ، ولكن المثل القرآني لم يستعملها حفاظاً على الدلالة الصوتية التي أعطت معنى النزاع المستمر ، والجدل القائم ، وقد جمعت في هذه الكلمة حروف التفشي والصفير في الشين والسين تعاقباً ، تتخللهما الكاف من وسط الحلق ، والواو والنون للمد والترنم ، والتأثر بالحالة ، فأعطت هذه الحروف مجتمعة نغماً موسيقياً خاصاً حمّلها أكثر من معنى الخصومة والجدل والنقاش بما أكسبها أزيزاً في الأذن ، يبلغ به السامع أن الخصام ذو خصوصية بلغت درجة الفورة ، والعنف والفزع من جهة ، كما أحيط السمع بجرس مهموس معين ذي نبرات تؤثر في الحس والوجدان من جهة أخرى. 3ـ وتأمل مادة (كبّ) في القرآن، وهي تعني إسقاط الشيء على وجهه كما في قوله تعالى "فكبت وجوههم في النار" (النمل 90). فلا إنقاذ ولا خلاص ولا إخراج ، والوجه أشرف مواضع الجسد، وهو يهوي بشدة فكيف بباقي البدن. والأكباب جعل وجهه مكبوباً على العمل ، قال تعالى "أفمن يمشي مكبا على وجهه أهد" (الملك 22). والكبكبة تدهور الشيء في هوة. قال تعالى "فكبكبوا فيها هم والغاون" (الشعراء 94). وهذه الصيغة قد حملت اللفظ في تكرار صوتها ، زيادة معنى التدهور لما أفاده الزمخشري (ت: 538 هـ) بقوله (إن الزيادة في البناء لزيادة المعنى). وقال العلامة الطيبي (ت: 743 هـ): (كرر الكب دلالة على الشدة). ومن هنا نفيد أن دلالة الفزع فيما تقدم من ألفاظ أريدت بحد ذاتها لتهويل الأمر ، وتفخيم الدلالة ، وهذا أمر مطرد في القرآن ، وقد يمثله قوله تعالى "فغشيهم من اليم ماغشيهم" (طه 78).
وعن الإغراق في مدّ الصوت واستطالته يقول الاستاذ محمد حسين علي الصغير: هنالك مقاطع صوتية مغرقة في الطول والمد والتشديد وبالرغم من ندرة صيغة هذه المركبات الصوتية في اللغة العربية حتى أنها لتعدّ بالأصابع، فإننا نجد القرآن الكريم يستعل أفخمها لفظاً، وأعظمها وقعاً، فتستوحي من دلالتها الصوتية مدى شدّتها ، لتستنتج من ذلك أهميتها وأحقيتها بالتلبث والرصد والتفكير. من تلك الألفاظ : الحاقّة، الطّامة، الصّاخة. وقد تأتي مجّردة عن التعريف فتهتدي إلى عموميتها ، مثل: دابّة. كافة. هذه الصيغة صوتياً تمتاز بتوجه الفكر نحوها في تساؤل، واصطكاك السمع بصداها المدوي، وأخيراً بتفاعل الوجدان معها مترقباً: الأحداث، المفاجئات، النتائج المجهولة. الحاقة الطامة والصاخة: كلمات تستدعي نسبة عالية من الضغط الصوتي، والأداء الجهوري لسماع رنتها، مما يتوافق نسبياً مع إرادتها في جلجلة الصوت، وشدة الإيقاع، كل ذلك مما يوضع مجموعة العلاقات القائمة بين اللفظ ودلالته في مثل هذه العائلة الصوتية الواحدة، فإذا أضفنا إلى ذلك معناها المحدد في كتاب الله تعالى، وهو يوم القيامة، خرجنا بحصيلة علمية تنتهي بمصاقبة الشدة الصوتية للشدة الدلالية بين الصوت والمعنى الحقيقي، فقوله تعالى "الحاقة * ما الحاقة * ومآ أدراك ما الحاقة" (الحاقة 1-3). إشارة إلى يوم القيامة، وعلم عليها فيما أفاد العلماء، قال الفرّاء (ت: 207 هـ): (الحاقة: القيامة، سميت بذلك لأن فيها الثواب والجزاء). وقال الطبرسي (ت: 548 هـ) (الحاقة اسم من أسماء القيامة في قول جميع المفسرين، وسميت بذلك، لأنها ذات الحواق من الأمور، وهي الصادقة الواجبة الصدق، لأن جميع أحكام القيامة واجبة الوقوع، صادقة الوجود. وقيل سميت القيامة الحاقة لأنها تحق الكفار من قولهم: حاققته فحققته، مثل : خاصمته فخصمته). وقيل: لأنها تحق كل إنسان بعمله. ويقال: حقّت القيامة: أحاطت بالخلائق فهي حاقة. فإذا رصدت الصاخة، رأيتها القيامة أيضاً، وبه فسّر أبو عبيدة (ت: 210 هـ) قوله تعالى "فإذا جآءت الصآخة" (عبس 33). فأما أن تكون الصاخة اسم فاعل من صخ يصخ، وإما أن تكون مصدراً وقال أبو اسحق الزجاج: الصاخة هي الصيحة تكون فيها القيامة تصخ الأسماع، أى: تصمها فلا تسمع. وقال ابن سيده: الصاخة: صيحة تصخ الأذن أي تطعنها فتصمها لشدتها، ومنه سميت القيامة. ويقال: كأن في أذنه صاخة، أي طعنة.
https://telegram.me/buratha