الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب عصمة المعصوم عليه السلام وفق المعطيات القرآنية لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير عن المحور الخاص: من شبهات العصمة: 1 ـ عصيان آدم عليه السلام : ومنشأ هذه الشبهة قوله تعالى "وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبَى * فَقُلْنَا يَا آدَمُ إِنَّ هذَا عَدُوٌّ لَكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى * إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيهَا وَلاَ تَعْرَى * وَأَنَّكَ لاَ تَظْمَأُ فِيهَا وَلاَ تَضْحَى * فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطَانُ قَالَ يَا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلَى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَمُلْكٍ لاَ يَبْلَى * فَأَكَلاَ مِنْهَا فَبَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَعَصَى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَى * ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" (طه 116-122) ويرى أصحاب الشبهة ان سياقها الظاهر هو وقوع العصيان من جهة آدم عليه السلام خاصة وان هذه المعصية قد قرنت بفعل "غَوَى" مما يؤكد أن المعصية المتحدث عنها قبيحة، وهي بالتالي قادحة بعصمته عليهالسلام. أما الجواب عن ذلك فيتضح فيما لو دققنا في أسباب الطلب الإلهي من آدم عليه السلام في أن لا يأكل من الشجرة، إذ عرّفتها الآيات الشريفة بالتالي: فالأكل من الشجرة يؤدي إلى الخروج من الجنة ، مما يستدعي أن تنقضي نعمة الله تعالى عليه وعلى زوجه بأن لا يجوعا ولا يعريا ولا يظمأ ولا يضحيا، وهذه الأمور بطبيعتها مادية بحتة ناظرة إلى ابقاء آدم في الجنة التي كان فيها كي لا يشقى، وهي جنة من جنان الدنيا وليست من جنان الخلد في الآخرة، لوضوح أن الداخل لجنان الخلد لا يخرج منها ، ولوضوح أن جنة الآخرة تتكشف الحقائق فيها بشكل عياني، ولوضوح أن ابليس لا يدخل إلى تلك الجنة، وهو أمر لو كان لما تمكن إبليس من ان يدلّس على آدم شأن الشجرة، ولو أضفنا إلى ذلك كله أن هدف إبليس المعلن في الآيات الكريمة هو اخراج آدم وزوجه من الجنة ليزيد من شقائهما، ومن غير العسير معرفة أن إبليس كان فاقداً للأمل في شأن معصيتهما لربهما في مجال ما يسمّى بالأوامر المولوية الملزمة للعبد في طاعة مولاه، ولخصيصة كرهه وحسده لهما حاول أن يزيد من شقائهما، ويتأكد هذا الأمر فيما لو لاحظنا أن الهدف المعلن من تخلف آدم عليه السلام عن أمر ربه هو عدم المعصية، بل محبة طاعته، فهما كانا يريدان الخلد لغرض ديمومة حالة العبادة له سبحانه وتعالى، ومن هنا كان مصدر تغرير إبليس بهما هو هذا الأمر بالذات كما وصفت الآية الكريمة "فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطَانُ لِيُبْدِيَ لَهُمَا مَا وُورِيَ عَنْهُمَا مِنْ سَوْآتِهِمَا وَقَالَ مَا نَهَاكُمَا رَبُّكُمَا عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونَا مِنَ الْخَالِدِينَ * وَقَاسَمَهُمَا إِنِّي لَكُمَا لَمِنَ النَّاصِحِينَ * فَدَلاَّهُمَا بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ" (الاعراف 20-22)، ومن هنا نجد أن العتاب الرباني لهما كان شفقة عليهما، لا غضباً منهما كما يتراءى لنا ذلك من ذيل الآيات الأخيرة "وَنَادَاهُمَا رَبُّهُمَا أَلَمْ أَنْهَكُمَا عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَأَقُلْ لَكُمَا إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمَا عَدُوٌّ مُبِينٌ" (الاعراف 22).
ويستطرد الشيخ الصغير قائلا: وبذا يتبين لنا أن المقصود بمعصية آدم عليه السلام لم يكن متمحوراً في كونها معصية لأمر مولوي من الله سبحانه ، وإلا لما أنهى حديثه عن هذه المعصية بميزة الاجتباء ومن بعدها التوبة والهداية "ثُمَّ اجْتَبَاهُ رَبُّهُ فَتَابَ عَلَيْهِ وَهَدَى" (طه 122) فالله لا يثيب الغاوي برفع الدرجة بل العكس هو الصحيح ، وهذا الاجتباء الذي أفضى إلى التوبة هو ميزة تشريف وتكريم ، ويتأكد هذا المعنى من التحاق التوبة بالاجتباء، إذ لو كانت المعصية هي معصية قبيحة لوجدنا أن التوبة تتقدم الاجتباء ، لا العكس كما هو حال الآية الكريمة. ومعه نعلم أن مصطلح الغواية المطروح هنا ليس هو الغواية القبيحة المسببة للآثام ، وإنما هي عدم اختيار الأمثل والأولى، خاصة إن لوحظت وفق الاطار الذي أطّر القرآن فيه مادة الغواية الآثمة بقوله سبحانه وتعالى "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلاَّ عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ * قَالَ هذَا صِرَاطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ * إِنَّ عِبَادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطَانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغَاوِينَ" (الحجر 39-42)، وهذا التعهد الربّاني لا يمكن أن يتخطّى آدم عليه السلام بحال من الأحوال. ومعه تكون جملة "وَلاَ تَقْرَبَا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ" (البقرة 35) معربة عما يمكن لهذه المعصية ـ وهي الأكل من الشجرة ـ أن تتسبب به كما أشارت الآية الكريمة "فَلَمَّا ذَاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُمَا سَوْآتُهُمَا وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ" (الاعراف 22)، وهذا يعني تبديل نعمة الله في عدم الجوع والعري وما إلى ذلك، بشقاء المكابدة والمجاهدة المترتبة على أكل الدنيا، فلقد استبدلا أكل الجنة بأكل الدنيا ، وهذا ظلم لهما. ومن كل ذلك يتضح لنا أن معصية آدم عليه السلام كانت هي في تركه للأولى، وترك الأولى لا يقدح في العصمة، وإن قدح في ميزان التفاضل، وهذا هو سرّ التفاضل بين المعصومين عليهم السلام، وهو أمر عرضت له العديد من الآيات الكريمة، كما نلمس ذلك من قوله تعالى "تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَرَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجَاتٍ" (البقرة 253) ، وكذا قوله تعالى "وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ" (الاسراء 55).
وعن الشيهة الثانية يقول الشيخ جلال الدين الصغير: 2 ـ تكذيب نوح عليه السلام : ومنشأ هذه الشبهة التي ترى أن الله قد كذّب نوح عليه السلام هو الآية الكريمة "وَنَادَى نُوحٌ رَبَّهُ فَقَالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَإِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَأَنْتَ أَحْكَمُ الْحَاكِمِينَ * قَالَ يَا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ * قَالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْأَلَكَ مَا لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخَاسِرِينَ" (هود 45-46)، ولا يكون التكذيب إلا نتيجة لعدم عصمته عن قول الكذب ، كما إن قرن قوله "إِنَّه عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ" (هود 45) مع قوله "فَلاَ تَسْأَلْنِ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (هود 45) يؤكد أن العتاب هنا إنما هو عتاب توبيخي لما تجاهل به نوح عليه السلام مع ربه كما ان طلبه المغفرة من بعد ذلك يشير إلى اقراره بارتكاب الذنب، وهو بالنتيجة ما لا يجتمع مع العصمة. هذا وقد روى القوم عن سعيد بن جبير قوله في طبيعة العمل غير الصالح المشار إليه في الآية : معصية نبي الله. وعن ابن زيد قوله في قوله تعالى "إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ" (هود 45) أن تبلغ بك الجهالة اني لا أفي بوعد وعدتك حتى تسألني، قال: فإنها خطيئة. وعن الفضيل بن عياض في قوله تعالى "إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صَالِحٍ" (هود 45) أنه قال: فأوحى الله إليه : يا نوح إن سؤالك إيّاي ان ابني من أهلي، عمل غير صالح. ونلاحظ في البداية أن النبي نوحاً عليه السلام هو صاحب الدعاء الذي ورد لفظه في الآية الكريمة: (وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّاراً * إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلاَ يَلِدُوا إِلاَّ فَاجِراً كَفَّاراً" (نوح 26-27)، وهذه الصيغة الجازمة تخبرنا بأنه عليهالسلام لم يستثن في دعائه أي أحد من الكافرين ، بغض النظر عن كون هؤلاء الكافرين من الأرحام أو من غيرهم ، قريبين أو بعيدين، خاصة وأنه عليهالسلام كان قد تلقى أمراً إلهياً جازماً بعدم مخاطبته في شأن الظالمين ، كما حكت الآية الكريمة "وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنَا وَوَحْيِنَا وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ" (هود 37)، كما وان صيغة سؤاله في نجاة ابنه تبدي انه لم يبال بالدعوة لنجاة امرأته التي كان يعلم بخيانتها له، ممالأتها للقوم، وبهذا نعلم أن دعاءه لابنه كان قد حصل لعدم علمه بحال ابنه، فلقد وعده الله سبحانه بنجاة أهله ، واستثنى من ذلك من سبق عليه القول، وفقاً لقوله تعالى "قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَمَنْ آمَنَ وَمَا آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ" (هود 40)، وقوله تعالى "فَاسْلُكْ فِيهَا مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَأَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَلاَ تُخَاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ" (المؤمنون 27)، وما يؤكد عدم علمه بحال ابنه مخاطبته إياه بالصعود معه في السفينة كما حكى القرآن "وَنَادَى نُوحٌ ابْنَهُ وَكَانَ فِي مَعْزِلٍ يَا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنَا وَلاَ تَكُنْ مَعَ الْكَافِرِينَ" (هود 42)، ولا معنى لطلبه من ابنه الصعود بعد أمر الله سبحانه له بعدم مخاطبته في شأن الظالمين، ومعه يكون قوله تعالى عن استثناء الابن من النجاة هو إخبار محض لا ينطوي علىأي تكذيب، وقد علل هذا الاستثناء بأنه كان على غير صلاح ، ويكون نداء نوح عليه السلام استفهاماً ليس فيه أي تكذيب من جانبه لله في ما وعده به، وكيف يمكن لنبي أن يكذّب الله في وعده؟
https://telegram.me/buratha