الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب نظرات معاصرة في القرآن الكريم للدكتور محمد حسين علي الصغير رحمه الله عن ملامح الإعجاز في القرآن العظيم: الاعجاز بمفهوم بديهي : عبارة عن خرق لنواميس الكون ، وتغيير في قوانين الطبيعة ، وقلب للنظام الثابت في الموازين إلى نظام متحول جديد. فالثابت هو الأصل الجاري على سنن الحياة، والمتحول هو الحالة المغايرة لأنظمة المعادلات الكونية المتكافئة. هناك إذن مَعْلَمات : معلم طبيعي بسيط ، ومعلم خارق معقد، والمعلم الطبيعي لا تجد عنه متحولاً ، فهو سنة الله في الإبداع والمعلم الخارق ما تجد فيه قلباً لتك السنن، ومجابهة لمجريات الأحداث الرتيبة، بأخرى إعجازية. فزوجية الكائنات هي الأصل في بعث حقائق الأشياء، والطريق إلى تسيير حياة الكائنات في العوالم المرئية والمسموعة والمدركة والمتخيلة بدليل قوله تعالى: "سُبْحَانَ الَّذِي خَلَقَ الأَزْوَاجَ كُلَّهَا مِمَّا تُنبِتُ الأَرْضُ وَمِنْ أَنفُسِهِمْ وَمِمَّا لا يَعْلَمُونَ" (يس 36). وفي هذا الضوء يكون الايجاد الطبيعي للإنسان منسجماً مع نظام الزوجية العام في حالة متأصلة إعتيادية، ويكون الأصل التكويني للبشرية في خلق آدم من التراب دون الطريق الطبيعي في التناسل هو الحالة الفريدة، وهي الاعجاز، ويحمل عليها كلما قابل العادة، ولم يخضع إلى التجربة كما في إيجاد عيسى عليهالسلام بما مثله القرآن "إِنَّ مَثَلَ عِيسَىٰ عِندَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِن تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُن فَيَكُونُ" (ال عمران 59). وليس السبق في العلم إعجازاً بل هو من مفردات إكتشاف المجهول، وتحقيق الزيادة في أولية الاستقراء والاستنباط.
ويستطرد الاستاذ الصغير عن اعجاز القرآن الكريم مشيرا الى آيات منه قائلا: ولم يكن الأنبياء ليستعملوا الطريق الطبيعي في المعجز، وإنما كانوا يتحدون هذا الطريق، فموسى تحدى سحر السحرة "وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سَاجِدِينَ (120) قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعَالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسَىٰ وَهَارُونَ (122)" (الاعراف 120-122) فكان إعترافهم بصحة دعوى موسى دليلاً على إعجاز ، لأن ما جاء به ليس من سنخ ما يعرفون. وعيسى لم يستعمل مضادات الأمراض، وإعطاء الدواء، فيحقق سبقاً طبياً، وإنما كان يبرئ الاكمه والأبرص ويحيي الموتى بإذن الله دون وسائل الأطباء والرسول الأعظم لم يصك العرب ببلاغة القرآن، إلا لأنهم أئمة البلاغة وأرباب البيان، ولكنه من الله "وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ (44) لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ (46)" (الحاقة 44-46). فكله من عند الله "وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَىٰ (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَىٰ (4)" (النجم 3-4) قال الجاحظ (ت: 255 ه) (ولأن رجلاً من العرب لو قرأ على رجل من خطبائهم وبلغائهم سورة واحدة طويلة أو قصيرةـ لتبين له في نظامها ومخرجها، وفي لفظها وطبعها أنه عاجز عن مثلها، ولو تجدي بها أبلغ العرب لظهر عجزه عنها). فعبارة القرآن إذن من سنخ ما يعرفون ويدركون، ولكنها ليس من جنس ما يحسنون لا كمّاً ولا كيفاً، فطلب إليهم الأتيان بمثله فما أستطاعوا ، وتنزل على عشر سورة فما أطاقوا، فتحداهم بسورة واحدة فقال "وَإِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّمَّا نَزَّلْنَا عَلَىٰ عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُم مِّن دُونِ اللهِ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ" (البقرة 23) وقد دل الاستقراء أن أقصر سور القرآن هي الكوثر بسم الله الرحمن الرحيم "إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ (2) إِنَّ شَانِئَكَ هُوَ الأَبْتَرُ (3)" (الكوثر 1-3). فما بال الأمم لا تأتي بسطر واحد من هذا الجنس؟ وإذا كان القرآن قد أعجز العرب، فغير العرب أشد عجزاً لأمرين: الأول: أن العرب هم أهل اللسان، وقد عجزوا عن مجاراة القرآن، فغير أهل اللسان عاجزون من باب أولى. الثاني: أن اللغة العربية الشريفة ليست لغزاً من الألغاز، وهي قابلة للتعلم، وقد نبغ فيها كثير من مسلمي غير العرب ، وأتقنها حملة من المستعربين والمستشرقين حتى ترجموا القرآن إلى لغاتهم وقدموا أفضل الدراسات القرآنية، وإنما التحدي أو يتحدى الإعجاز القرآني من كل أمة علماءها، وعلماء الأمم يتمكنون من العربية، فتوجه إليهم التحدي وعجزوا عن ذلك في كل زمان ومكان. "قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالجِنُّ عَلَىٰ أَن يَأْتُوا بِمِثْلِ هَٰذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا" (الاسراء 88). وقد يقال بأن الله قد صرف قلوب الناس، وحبس ألسنتهم عن أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فيسمى ذلك إعجازاً بالصرفة، وهو رأي المعتزلة. ولكن الرأي الأمثل، أن الله قد يسر جميع القدرات البيانية، ووهب مستلزمات البلاغة للناس وتحداهم فلم يتمكنوا من الأتيان بمثل لهذا القرآن، وذلك أبلغ في الإعجاز.
وعن وجوه الاعجاز ومظاهره يقول الدكتور محمد حسين الصغير رحمه الله: فما هي وجوه هذا الإعجاز في القرآن وما هي مظاهره ؟ أحاول فيما يلي أن أضع ملخصاً بأبرز وجوه الاعجاز ومظاهره على نحو الإجمال. الإعجاز الغيبي، ويتمثل بما تحدث عنه القرآن الكريم بضرس قاطع في الأنباء عن الغيب الماضي والمستقبلي: أ ـ عرض القرآن سيرة الأمم السالفة وجزئيات أحداثها، وكبريات أنبائها بلهجة الجزم واليقين، فأخبر عن آدم ونوح وإبراهيم وموسى وعيسى وذي القرنين وأهل الكهف، وقوم عاد وثمود ولوط وشعيب، وجمهرة عظيمة ممن أصابهم عذاب الاستئصال بمجريات أحوالهم بما يعتبر كشفاً لأدق التفصيلات التأريخية بما لا علم لأحد به على وجه الكمال، وهي حالة لا عهد بها للمجتمع العربي في مكة، مما كعلهم يتهافتون على هذه الأخبار، ويتمثلون وقائعها بالمقياس التأريخي للإفادة من عبرها وأحداثها ومواردها. ب ـ وتحدث القرآن عن الأحداث المستقبلية بلغة التأكيد بعدة مناسبات أبرزها، وقعة بدر "سَيُهْزَمُ الجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ" (القمر 45) وغلبة الروم وانتصارها فيما بعد "الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الأَرْضِ وَهُم مِّن بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3)" (الروم 1-3). وعن فتح مكة "لَتَدْخُلُنَّ المَسْجِدَ الحَرَامَ إِن شَاءَ اللهُ آمِنِينَ" (الفتح 27) وهزمت قريش بعليائها وجبروتها في معركة بدر الكبرى، وانتصر الروم على الفرس بعد سنين من غلبة الفرس، ودخل النبي مكة فاتحاً، وقد كان فتح مكة غير وارد في الحساب التخطيطي، إذ كيف يمكن لهذا المهاجر مع طائفة قليلة من أهل بيته وأصحابه وهو ضعيف مستضعف، أن يقتحم جبروت قريش ويغزوها في عقر دارها، وكان ذلك دليلاً واضحاً ومنتشراً في البلاد على الاعجاز الغيبي.
https://telegram.me/buratha