الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب من عنده علم الكتاب عن الشهادة للشيخ جلال الدين الصغير: إن طبيعة الشهادة تحتاج إلى مواصفات أساسية، فالشاهد ينبغي أن يكون أعلم الموجودين بشأن ما يشهد به، وإذا كان مفاد الشهادة هو الرسالة، فلا بد إذن من أن يكون هو الأعلم بهذه الرسالة، سيما وأن بعض الآيات تتحدث عن تمكن الشاهد من الشهادة على بينات الله كما في قوله تعال: "أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ" (هود 17) وهذا أمر لا يمكن حصوله إلا من خلال علم استثنائي، فالرسالة إن كانت تعبر عن العلم الإلهي في بعض صوره، فالشاهد على تبليغه يفترض أن يكون علمه في مصافه، وأن يكون كذلك فالواجب أن يكون تلقيه لهذا العلم من معدنه، أي أن يكون من خلال الطرق التقليدية للتعليم، وهذا ما يجعل الشاهد استثنائيا في علمه أيضا، ولن يكون هذا الشخص بهذا المستوى إلا من خلال كونه شخصا قد اصطفاه الله لذلك. والشاهد لا بد وأن يكون عادلا في الإدلاء بشهادته بحيث أنه لا يكتمها مهما كانت الظروف، فلا بد وأن يكونمعصوما، إذ لا معنى لتعلق مفهوم الحجية على حضور الشاهد في الوقت الذي لا تكون فيه عملية الإدلاء بالشهادة محسومة بشكل قطعي، ولا قطع في هذا المجال من دون العصمة.
ويتأكد كل ذلك من خلال التأمل الدقيق في مرامي الآية الكريمة التي تتحدث عن مواصفات الشاهد حيث قال جل من قائل: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ * وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلَاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ" (الحج 77-78) فما أشار إليه سبحانه وتعالى هنا إنما هو الصورة الفضلى لهذه الأعمال، فليس الركوع هنا أي ركوع، وليس السجود هنا أي سجود، وليست العبادة آية عبادة، وإنما هي صورة في بعدها المطلق، ومما لا شك فيه أن هذه الصورة لا يمكن تحققها، إلا من خلال العصمة.
واستطرد الشيخ الصغير قائلا: على أن ملكة العدالة والعلم في هذا المجال لا تكفي وحدها، وإنما لا بد من أن يكون لدى الشاهد قابلية الشهادة من حيث الاستعداد لحمل عبئها من جهة، والإحاطة بساحات الشهادة وأدائها أماكن وأزمان من جهة أخرى، فهذا القرآن يحدثنا عن أن زمن الشهادة العامة لا يسمح لكل أحد بالقيام بها كما في قوله تعالى: "يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلَائِكَةُ صَفًّا لَا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَقَالَ صَوَابًا" (النبأ 38)، وقول الصواب المطلق كما ترى يستلزم من الشخص أن يكون بمؤهلات عالية عند الله، بحيث يدعه يتكلم في يوم أوصف بأوصاف رهيبة من جملتها ما وصفته الآية الكريمة: "يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ" (الحج 1-2)، وهذه المواصفات أقلها أن من لم يكن مطمئنا على نجاته يومئذ، فهو في شغل عن الشهادة على نفسه ولها، فضلا عن الشهادة على غيره وله، وهذا الأمر هو الآخر يدلنا مرة أخرى على ضرورة أن يكون الشاهد معصوما على الأقل، بحيث أنه يقدر نتيجة لاطمئنانه أن يشهد حينما يدعى للشهادة. على أن هذه الأهلية إن لم تلتزم بوجوب تمتع بمواصفات استثنائية خاصة، وتصطدم أيضا بالشهادة على عوالم الجن، وهؤلاء يدخلون في مقتضياتها، لتحقق الطلب الإلهي منهم بالعبادة، مما يستلزم الثواب العقاب، ومعها يصبح وجود الشاهد عليهم واجبا، ولكونهم أمم أمثالكم، وكذا الشهادة على عالم الملائكة بما فيهم ملائكة الوحي، فضلا عن الملائكة الكاتبين لأن الملائكة أمة من الأمم، وهذه تدخل في مفاد قوله تعالى: "فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَىٰ هَٰؤُلَاءِ شَهِيدًا" (النساء 41) فأين كل ذلك من فرضية النخبة والطليعة الواعية.
واختتم الشيخ جلال الدين الصغير قوله عن الشهادة: وأخيرا فإني أعتقد أن الآية الكريمة: "وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا" (النساء 69) كفيلة بتبيان الفارق بين الشهداء وغيرهم من أصحاب الكفاءات التي أشار إليهم صاحب الشبهة، فعلى أحسن التقادير تكون النخبة والطليعة الواعية وأصحاب الجهاد والعمل هم من درجة الصالحين، وهي درجة دون درجة الشهداء مما يجعلهم يمتازون الواحد عن الآخر. فلا تغفل.
وعن الاية الكريمة "عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43) يقول الشيخ الصغير: الآية في دلالاتها التفسيرية للمفسرين العامة اتجاهات متعددة للتعرض للآية، وإن كان المبنى الرئيسي لهم هو الحصول على موقف مناسب من العنوان الضخم الذي حددته الآية هو عنوان يمكن أن يقدم إغراءات كثيرة في أي صراع مذهبي، وبالتالي فإن أي صراع مذهبي لا يمكنه التنصل من مصداق هذه الآية، ولهذا قد نجد بعض أهل التفسير يمارسون من التعسف في تطويع مراد الآية بشكل قد يقترب من مقولة الإعراب على طريقة: منصوب وعلامة جره الضمة الظاهرة أوله، وذلك للإشارة إلى حجم التخبط الذي يعتري مقولة بعضهم، وعملا بمنهجنا المعتاد فسنحاول هنا أن نسلط الضوء على اتجاهات المفسرين ونخضعها للنقد، فما وافق الحق فالحق أحق بأن يتبع، وما خالفه فما أولانا بمخالفته والأعراض عنه، والله الموفق المسدد لطريق الصواب. هل هو شاهد واحد؟
أ - يصر الاتجاه الأول على اعتبار الشاهد في الآية واحدا، أي أنه الله جل وعلا، وأصحاب هذا الاتجاه ينقسمون بشكل عام إلى ثلاثة أقسام: أولهما: من يفسر الآية بعبارة: من عند الله علم الكتاب، وهو ما رواه غير واحد من مفسري العامة، فلقد روى الطبري ذلك عن ابن عباس، ومجاهد، والحسن، وسعيد بن جبير، وهارون، والضحاك بن مزاحم وتابعه الجوزي فيما رواه عن مجاهد والحسن، وتابعهما السيوطي على ذلك غير أنه أضاف أسماء كل من عمر وابنه عبد الله . وقد نقل الرازي عن الزجاج قوله مستدلا: الأشبه أن الله لا يستشهد على صحة حكمه بغيره. وثانيهما: من يفسر الآية بالقراءة الشاذة: "من عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43) وقد رووها عن مجاهد، وقال الجوزي: اختاره الزجاج، وهي قراءة ابن السميفع وابن أبي عبلة ومجاهد وأبي حياة. وثالثهما: من يفسر الآية بقراءة شاذة أخرى تروى عن الحسن البصري هي: "من عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتَابِ" (الرعد 43). ولكن هذا الاتجاه الذي حاول أن يتنصل من مقولة علماء الكتاب فقال بكون السورة مكية، ومن أجل أن يبعد عقيدة الإمامية في هذا الشأن حاول أن يلغي وجود شاهد أخر على رسالة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولكن محاولاته هذه لم تمنعه من أن يسقط أسير تعسفاته فاعتمد قراءات شاذة لا يعول عليها، بل وحاول تسهيل الصعب وتصعيب السهل. فهو استساغ أن تعطف الذات وصفتها على نفس الذات، وهو قبيح في اللغة، واستصعب أن يستشهد الله بغيره على صحة حكمه، كما أشار الزجاج، فيما نجد أن القرآن يقدم العديد من الشواهد على جواز ذلك.
https://telegram.me/buratha