الدكتور فاضل حسن شريف
جاء في كتاب الولاية التكوينية الحق الطبيعي للمعصوم لمؤلفه الشيخ جلال الدين الصغير: قال الله تبارك وتعالى "عَالِمُ الْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا" (الجن 26-27) وهذا الاستثناء الملحوق بكلمة إلا يظهر بوضوح أن ثمة مقدارا من علم الغيب ستفيض به الذات الإلهية على من وصف بأنه رسول مرتضى من قبله جل وعلا وهذا المقدار مهما كان حجمه يلغي فكرة الاختصاص الصارم الذي لا يتخلف ولا تفل صرامته، وواضح أن الله جل وعلا إن ارتضى رسول أن فلن يتخلف عن رضائه لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم، وكل شئ صلح لرسول الله صلى الله عليه واله وسلم صلح للإمام عليه السلام، وما دام الأمر كذلك، فما المانع في ف أن نقول أن الله جل جلاله أفاض علم غيبه إلى الرسول وما يمثل مقامه الرسالي، لا سيما وأن العديد من الآيات قد تحدثت عن وجود إيحاء إلهي بعلم الغيب لرسوله ما في قوله: "ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ" (ال عمران 44)، وقوله: "تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا" (هود 49)، وقوله: "ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ" (يوسف 102) كما وتحدثت جملة أخرى من الآيات من إيتاء علم خاص للنبي ما في قوله عن لوط عليه السلام: "وَلُوطًا آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا" (الانبياء 74)، وقوله عن سليمان وداود عليه السلام: "فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا" (الانبياء 79)، وكذا قوله تعالى: "وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ عِلْمًا وَقَالَا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنَا عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ الْمُؤْمِنِينَ" (النمل 15)، وكذا عن موسى عليه السلام "وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا" (القصص 14)، ولم يكن الأمر ليتوقف عند النبي فحسب، بل امتد ليشمل من له درجة الولي كما في حديث القرآن عن الخضر عليه السلام "فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا" (الكهف 65) لم يثبت لدى أهل التحقيق كون الخضر عليه السلام كان نبيا، وقد أبهمت الروايات الشريفة التي تحدثت عن حياته وشؤونه هذه الخاصية، والذي عليه الإجماع أنه كان وليا نم أولياء الله، وقد ناقش البعض كونه إماما، ولكن رد بأن الإمام ينبغي أن يلحق نبيا مشخصا فيكون وصيا له، وحيث أن الخضر لم يتبع نبيا محددا، وحياته الطويلة مرت بالعديد من الأنبياء فيهم نبينا صلى الله عليه واله وسلم، فلا يصح عندئذ عده إماما، وهو الأقرب والله العالم. وكل هذه تتحدث وبوضوح عن وجود جعل إلهي للمعصوم عليه السلام يتمثل باصطفاء علمي له من قبل الله، ومعلوم أن هذه العلوم ليست علوما بمستطاع البشر العادي أن ينالها، ضمن طرق تحصيل العلم المادية والمتعارفة، وإلا لما قرنت بكلمة الإيتاء التي نستوحيه منها معنى الهبة الخاصة والمتميزة.
قال الشيخ جلال الدين الصغير: معرفة علم الغيب منزلة روحية: تفيد العديد من الآيات القرآنية أن التعرف على مقامات علم الغيب هو منزلة روحية يستطيع أن ينالها من لديه قدرة الوصول إلى هذه المنزلة، بمعنى أنها في المقام الأول اكتسابية كما قوله تعالى: "كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ * لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ * ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ" (التكاثر 5-7) فهذه الآية تتحدث عن رؤية الجحيم لو تم اكتساب علم اليقين، وما هو مفروغ عنه أنها ليست من آيات يوم القيامة، ففي يوم القيامة يطلع الجميع كفرة ومسلمين على الجحيم، فليس ثمة حاجة لعلم اليقين عندئذ، وليس أدل على ذلك من مجئ آية "ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ" (التكاثر 7) بعد ذلك مباشرة لتشير إلى وجود رؤيتين الأولى سببها علم اليقين، وأخرى لا يعلل سببها، وإنما يجعل مشاهدتها شاملة للجميع، لذلك لم يعبر عنها بالعلم، وإنما بالرؤية المحضة، وعليه فلئن لم تكن الآية الشريفة ناظرة إلى يوم القيامة فإنها حتما ناظرة إلى الدنيا، ومن ثم للتحدث عن إمكانية الاطلاع على أمر من أمور الغيب دون أن تقيده بقيد النبوة أو الإمامة أو ما إلى ذلك، بل للتحدث عن مفهوم كلي. هذا وللعلامة الطباطبائي أعلى الله مقامه كلام لطف في هذا المقام منه: (الظاهر أن المراد رؤيتها قبل يوم القيامة رؤية البصيرة، وهي رؤية القلب التي هي من آثار اليقين على ما يشير إليه قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ" (الانعام 75)، وهذه الرؤية قبل يوم القيامة غير محققة لهؤلاء المتلهين، بل ممتنعة في حقهم لامتناع اليقين عليهم، ثم قال عن الآية الأخرى: المراد بعين اليقين نفسه، والمعنى لترونها محض اليقين، وهذه بمشاهدتها يوم القيامة، فالمارد بالرؤية الأولى رؤيتها قبل يوم القيامة، والثانية إذا دخلوا) ومثل ذلك الكثير من الآيات التي تتحدث عن رؤية الأبصار والأفئدة كما في قوله تعالى: "أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ" (الحج 46) وكذلك قوله: "وَإِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدَى لَا يَسْمَعُوا وَتَرَاهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ" (الاعراف 198) وفي كلا الآيتين تأكيد على أن ثمة رؤية غير رؤية البصر العادية التي يشترك فيها كل الناس، هي رؤية القلوب ويؤكدها قوله تعالى: "مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَى" (النجم 11)، ومثل ذلك قوله تعالى: "يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصَارِ" (النور 44). ولا يحتاج المرء إلى عسير فهم حتى يتبين له إن هذا التأكيد على رؤية البصيرة والفؤاد، إنما تكون بصورة غير مادية، لأنها لو كانت مادية، لاشترك بذلك الكافر والمشرك مع الموحد والمؤمن على حد سواء، ولكن ولأن القرآن يعتبر رؤية البصائر ميزة من مزايا التقوى الإلهية العالية كما عبر في مدحه لإبراهيم وذريته وإسحاق ويعقوب عليه السلام في قوله تعالى: "وَاذْكُرْ عِبَادَنَا إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَالْأَبْصَارِ" (ص 45) إذن فإن هذه الرؤية غير مادية، وأن تكون غير مادية فهي ناظرة إلى علم الغيب حتما.
وحول ان الاطلاع على علم الغيب أمر ناجز يقول الشيخ الصغير: تلهج العديد من آيات القرآن بأن الاطلاع على الغيب ليس ممكنا وحسب على مستوى النظرية، وإنما هو أمر سبق وأن ناله العديد من شخصيات التأريخ من أنبياء وأوصياء وغيرهم، كما يظهر ذلك من قوله تعالى: "وَكَذَٰلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ" (الانعام 75) فهنا يتحدث القرآن عن أن الله قد أراه كل ملكوت السماوات والأرض كما يفيد إطلاق الآية، وكما توضحه الروايات الخاصة بتفسير هذه الآية، وكذا ما تفيده قصة الخضر عليه السلام مع نبي الله موسى عليه السلام، وكذا ما تفيده الآية الكريمة التي جاءت على لسان نوح عليه السلام "وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (الاعراف 62)، وكذا ما جاء على لسان يعقوب عليه السلام "وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ" (يوسف 86) ومثل ذلك كثير. بل لو تأملنا في القرآن لوجدنا أنه يتحدث عن أن العلم بالغيب ناله أناس عاديون لم يكونوا بدرجة الأنبياء والرسل والأوصياء، فها هي أم موسى عليه السلام تحدث بمستقبل ابنها، وما سيؤول إليه مصيره، من دون أن تقترن عملية الإيحاء بالمهام الرسالية حتى: "وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ" (القصص 7). وأن يحصل ذلك مرة فما الضير في حدوثه مرات ومرات؟ ولئن أرى الله جل جلاله بعض عباده جانبا من علم الغيب ترى أيضا على من مثل رسول الله صلى الله عليه واله وسلم بذلك؟. ولو تفحصنا في آيات القرآن لرأينا أنها أولت الرسول صلى الله عليه واله وسلم مقامات ومشاهد يكون معها أمر علم الغيب من الأمور البسيطة، فالذي يلغ ما بلغ عند سدرة المنتهى، وبالطريقة التي يتحدث فيها القرآن عنها في سورة النجم: "وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَىٰ * مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَىٰ * وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ * عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَىٰ * ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوَىٰ * وَهُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلَىٰ * ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّىٰ * فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَىٰ * فَأَوْحَىٰ إِلَىٰ عَبْدِهِ مَا أَوْحَىٰ * مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ * أَفَتُمَارُونَهُ عَلَىٰ مَا يَرَىٰ * وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَىٰ * عِندَ سِدْرَةِ الْمُنتَهَىٰ * عِندَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَىٰ * إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَىٰ * مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَىٰ * لَقَدْ رَأَىٰ مِنْ آيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَىٰ" (النجم 1-18) أقول: من له هذه المرتبة ترى أيعصى عليه أمر دونها بكثير؟ فما لكم كيف تحكمون؟.
https://telegram.me/buratha