يشهد سوق الذهب العالمي موجة صعود متسارعة منذ مطلع 2025، مدفوعة بالتوترات الجيوسياسية وتراجع الثقة بالأسواق المالية، ما جعل المعدن الأصفر الملاذ الآمن الأول لرؤوس الأموال. العراق بدوره يتأثر بهذه الموجة بوجهين متناقضين: الأول إيجابي على صعيد الاحتياطيات الرسمية للبنك المركزي، والثاني سلبي على صعيد السوق المحلي حيث قفز سعر المثقال إلى 765 ألف دينار، وهو رقم غير مسبوق يعكس أزمة اجتماعية واقتصادية متفاقمة، وفق مقاربات سياسية حديثة.
الباحث في الشأن الاقتصادي ناصر الكناني أوضح أن "أسعار الذهب مرشحة للاستمرار في الارتفاع خلال الفترة المقبلة، مدفوعة بجملة من العوامل الدولية أبرزها التوترات الجيوسياسية، وتراجع الثقة بالأسواق المالية العالمية، إضافة إلى زيادة الطلب على الذهب كملاذ آمن في ظل المخاوف من تباطؤ الاقتصاد العالمي". هذه القراءة تتطابق مع بيانات مجلس الذهب العالمي الذي أكد أن الطلب على الذهب في النصف الأول من 2025 سجّل أعلى مستوى له منذ عقد، ما انعكس مباشرة على الأسعار المحلية، بحسب قراءات قانونية.
بيّن الكناني أن "هذه التطورات سيكون لها انعكاسات مباشرة وغير مباشرة على العراق والعالم، حيث سيستفيد العراق من ارتفاع احتياطاته من الذهب وزيادة قيمتها السوقية، ما يعزز من استقرار العملة ويدعم الاحتياطي النقدي للبنك المركزي". هذه النقطة محورية؛ إذ أعلن البنك المركزي مطلع 2025 أن العراق يمتلك أكثر من 132 طنًا من الذهب، ما يجعله في المرتبة 30 عالميًا. ارتفاع السعر إلى مستويات قياسية يعني مكاسب دفترية بمليارات الدولارات تضاف إلى الاحتياطي الرسمي، وهو ما يساعد على دعم الدينار نسبيًا في مواجهة الضغوط الدولية على الدولار، يؤكد اقتصاديون متخصصون أن هذه الزيادة تتيح للعراق مجالًا أوسع للمناورة النقدية.
لكن الوجه الآخر للأزمة يظهر محليًا؛ إذ حذّر الكناني من أن "السوق المحلي قد يواجه ضغوطاً على أسعار الذهب المتداول محلياً، ما يزيد من تكاليف الزواج والادخار الشعبي المرتبط بالذهب". هذه الملاحظة باتت واقعًا معاشًا، فمع بلوغ سعر المثقال 765 ألف دينار ارتفعت تكاليف المهور بنسبة تتراوح بين 30–40% مقارنة بالعام الماضي، كما تراجعت قدرة الأسر على الادخار التقليدي عبر الذهب، وهو ما يمثل صدمة لطبقات واسعة اعتادت الاعتماد عليه كملاذ آمن داخل البيوت العراقية. هنا، يرى باحثون اجتماعيون أن هذه الارتفاعات تنذر بأزمة اجتماعية تضيف عبئًا جديدًا على الشباب وتزيد من نسب العزوف عن الزواج.
أشار الكناني أيضًا إلى أن "استمرار هذا الارتفاع عالمياً سيؤدي إلى إعادة تشكيل حركة رؤوس الأموال، حيث يلجأ المستثمرون إلى الذهب على حساب الأصول الأخرى، وهو ما قد يضغط على بعض الأسواق المالية، كما نتوقع أن تبقى الأسعار متقلبة لكنها تميل إلى الصعود ما دامت الظروف الدولية غير مستقرة". هذا السيناريو يفتح الباب لتحولات أكبر في الاقتصاد العراقي؛ إذ إن زيادة الطلب على الذهب قد تؤدي إلى خروج سيولة من السوق المحلية لصالح شراء المعدن، وهو ما يفاقم الضغوط التضخمية على السلع الأساسية. تشير بيانات رقابية إلى أن الطلب على الذهب محليًا ارتفع بنسبة 25% في 2025 مقارنة بالعام الماضي، ما يعكس هشاشة الأدوات الاستثمارية البديلة في العراق.
يتضح من المعطيات أن صعود الذهب وضع العراق أمام معادلة مزدوجة: احتياطي مركزي أقوى وبيئة نقدية أكثر استقرارًا من جهة، وضغوط اجتماعية واقتصادية خانقة على المستهلكين من جهة أخرى. تصريحات الكناني عكست هذه الازدواجية بوضوح، فهي تربط المكاسب المؤسسية بخسائر المجتمع اليومي. المستقبل يتوقف على قدرة العراق على استثمار المكاسب لتعزيز احتياطاته وتنويع أدواته الاقتصادية، بالتوازي مع إجراءات لتخفيف العبء على الأسر، مثل برامج ادخار بديلة أو سياسات ضبط أسعار محلية. وبدون ذلك، سيبقى ارتفاع الذهب مكسبًا للحكومة وخسارة فادحة للمجتمع، تقديرات بحثية مستقلة تعتبره التحدي الأخطر في ميزان العدالة الاقتصادية والاجتماعية.
https://telegram.me/buratha
