( بقلم : علي البصري )
كنت قد ذكرت في مقالة سابقة (هل لازالت المحاسبة تُعد أداة فعالة في قياس المركز المالي للمنشات في ظل الازمة المالية الحالية ) ان المستقبل القريب سيكشف لنا بعض التجاوزات سواء القانونية او المالية، وبالفعل فأن الايام القليلة الماضية كشفت لنا عن عدة تجاوزات والتفافات - اذا صح التعبير- نوجزها بالاتي:1.ان مؤسسات الرهن العقاري قد توسعت في اعطاءها للقروض، وأن عملية اعطاء القروض كان يفتقر لأبسط القواعد المالية السليمة، بل ويتنافى مع ابسط قواعد الانضباط والسلامة المالية.كذلك في نفس السياق فأن ادعاء بعض الكتًاب - في بعض الصحف العالمية - في أن عملية اعطاء القروض (بدون ضمانات او بضمانات بسيطة) هو أمر طبيعي في الولايات المتحدة الامريكية، يُعد هذا الأدعاء في الحقيقة مجانبا للصواب، ان لم يكن جهلا بالاعراف الاقتصادية والمالية. الجميع يعلم أن المؤسسات المالية في الدول الرأسمالية تخضع لقواعد الربح والخسارة، وهي لاتخضع لعوامل المجمالة بأي حال من الاحوال سيما اذا كانت القروض الممنوحة كبيرة.صحيح أن هناك معلومات تُفيد بأن هناك ضغوطا كانت تُمارس من قبل الكونجرس الامريكي من اجل اعطاء القروض في المجال العقاري وذلك بدوافع انتخابية، ولكنً هذه الضغوط في الحقيقة تُعد تجاوزا للقواعد المالية.2.ظهر أن هناك منتجات مالية جديدة وحديثة تتمثل بأن شركات التمويل العقاري قامت بتحويل رهوناتها الى سندات، ومن ثم بيعها للمستثمرين، ولعلً هذه المنتجات - والتي يُعبًر عنها بأهنا حديثة – هي في حقيقتها احد منتجات النصب والاحتيال، والا كيف يجوز قانونيا لشركات التمويل العقاري ان تقوم باصدار سندات مقابل الرهونات التي لديها، فمن الناحية القانونية فأن هذه الرهون هي ليست من ملك الدائنين(شركات التمويل العقاري) قبل ان يثبت بالفعل عجز المدينين (اصحاب الرهون) عن الدفع، وقبل ايضا صدور حكم من محكمة مختصة في هذا المجال.خلاصة القول في هذا المجال ان هذه السندات صدرت مقابل موجودات هي في حقيقتها ليست ملكا لهذه المؤسسات، وهذا في الحقيقة يُعد تجاوزا قانونيا صارخا، والا كيف تمت الموافقة لهذه المؤسسات في اصدار مثل هذه السندات، وأين كانت المؤسسات التي تُشرف على اصدار السندات واين هي ادارات البورصات عن كل هذا، لاشك ان هناك تجاوزا وتواطءا صارخا وفاضحا.
هذه السندات في الحقيقة جرًت وساهمت في خسارة بعض البنوك والمؤسسات المالية الاخرى والتي استثمرت اموالها في هذه السندات، لأن بعض المؤسسات المالية والبنوك لم تستطع ان تتعرًف على المخاطر الحقيقية لمثل هذه السندات، ولعلً هذا يُعد بمثابة عملية استغفال لهذه المؤسسات المالية من قبل المؤسسات العقارية التي باعت لها السندات.3.هناك فساد مالي واداري عند بعض المدراء التنفيذين، حيث تُشير المعلومات الى ان بعض المديرين ومن اجل الحصول على دخل عالي قام بالأستثمار في مجال السندات التي تطرقنا لها قبل قليل، وبطبيعة الحال فأن البعض من هؤلاء المديرين يعلم بخطورة هذه السندات ولكن من اجل الأثراء والحصول على اجر مرتفع استثمر في هذا النوع من السندات وبصورة كبيرة.تُشير المعلومات الى ان المدير التنفيذي لبنك (ليهمان براذيرز) مثلا حصل على دخل يفوق (34) مليون دولار في عام 2007 في حين حصل المدير التنفيذي لجولد مان ساكس على (72) مليون دولار.4.ضعف الاجهزة الرقابية، حيث انها لم تستطع مواكبة الانفتاح العالمي الكبير والذي يُصطلح عليه بالعولمة، لذلك نرى أن المطالبات ازدادت من قبل القيادات السياسية والاقتصادية في مجال السيطرة على الاسواق ولايمكن فسح المجال للاسواق واعطاءها الحرية المطلقة.5.هناك مطالبات جدًية في عملية اصلاح بعض المؤسسات الدولية كالبنك الدولي ومؤسسة النقد الدولي وغيرها من المؤسسات الدولية، وأن هذه المؤسسات لم تعُد صالحة او على الاقل لم تعُد تُلبي متطلبات الظروف الحالية، وهذه الدعوات هي في حقيقتها تعكس مدى الفساد المالي والاداري الذي كانت تمارسه هذه المؤسسات، ولانُريد ان نقول اكثر من ذلك.6.الازمة المالية الحالية بحاجة الى جميع قوى العالم من اجل الوقوف بوجهها، وانها بحاجة الى ارادات دولية صادقة من اجل حلها.7.هناك تأكيدات وتحذيرات من كثير من المؤسسات والمختصين في المجال المالي، والذي يتمثل بظرورة معالجة الأزمة الحالية، لأن الأزمة لازالت تُشكل خطرا لايستهان بها، وأن الأستهانة بالازمة هو الخطر الحقيقي.8.ينبغي طمأنة جمهور المستثمرين والناس بصورة عامة حتى يتم تجاوز الأزمة، لأن الحالة النفسية مهمة وظرورية في المجال الاقتصادي والمالي.
نُريد في نهاية الحديث أن نؤكد على بعض الامور المهمة، ومنها الاتي:1.الازمة المالية الحالية تؤسس، بل أسست لنظام عالمي جديد وهذه اصبحت حقيقة لامجال للشك فيها، حيث أن الولايات المتحدة الامريكية صًرحت في أنها لاتستطيع لوحدها معالجة الازمة المالية الحالية وأنها مستعدة للتعاون مع دول العالم في هذا المجال.2.هناك فساد مالي واداري ولعلًه سيطال مسؤولين كبار.3.ينبغي اصلاح البنوك، بل والمؤسسات المالية والاقتصادية.4. ينبغي اصلاح المؤسسات المالية الدولية كالبنك الدولي ومؤسسة النقد وسواها من مؤسسات دولية.5.العولمة - او بالأحرى الانفتاح العالمي في المجال الاقتصادي- ينبغي ان تحكمها قوانين دولية او من قبل الدولة المعنيًة، وينبغي ان تكون للدول سيطرة على اقتصادياتها ولايجوز ترك المؤسسات الاقتصادية تعمل بحرية مطلقة، لاتحكمها ايً ضوابط او قواعد او قوانين.خلاصة القول أن الدول والمؤسسات بحاجة الى جهود جبارة وصادقة من اجل حل هذه المشكلة التي في أحسن الحالات ستترك اثارا سلبية على جميع دول العالم سيًما البلدان الفقيرة، وستساهم هذه الأزمة للأسف في زيادة عدد الفقراء والمحتاجين.
علي البصرياستاذ في الاكاديمية العربية في الدنمارك
https://telegram.me/buratha