نور الجبوري ||
كثيراً ما نسمع في الآونة الأخيرة مصطلح “الشروكية”، وهو يتردد بين من يمدح ويُعلي شأنه، ومن يذم ويقلل من قدره، حتى بات مثار جدلٍ واسع في الأوساط الاجتماعية والثقافية. هذا المصطلح الذي اختُزل كثيراً في أذهان البعض بمفاهيم سطحية أو نمطية، يحمل في حقيقته تاريخاً ضارباً في عمق الحضارة العراقية، ويمثل شريحة كبيرة من أبناء هذا البلد، الذين كانوا وما زالوا في الخطوط الأمامية لكل بناء ونهوض.
لقد اختلفت الآراء حول أصل هذه الكلمة ومعناها الحقيقي، فالبعض يرى أنها تعود إلى الجذور السومرية العريقة، حيث يُقال إن مفردة “شروكي” هي تركيب من كلمتين: “شرو” و”كين”، وتعني “المواطن الأصلي” في اللغة السومرية القديمة. وهو معنى يبعث على الاعتزاز، لا الانتقاص.
وقد أشار الدكتور فوزي رشيد في كتابه سرجون الأكدي (الصفحة 29)، إلى أن الاسم الحقيقي لأول إمبراطور في التاريخ، سرجون الأكدي، هو “شروكين”، والذي يعني “الملك الصادق” أو “الملك الثابت”، وهو ما يعكس دلالة نبيلة وشريفة لكلمة “شروكي” في اللغات الرافدينية القديمة.
لكن، ومع الأسف، فإن هذا المعنى المشرّف تم تحريفه وتشويهه عبر العصور، نتيجة الغزوات والصراعات والانقسامات التي شهدها العراق. لقد سعى المستعمرون، ضمن سياسة فرق تسد، إلى ترسيخ مفاهيم الفرقة والتمييز، فحُوّل هذا المصطلح من رمزٍ للهوية والانتماء إلى أداة للتقليل والتهميش. فأصبح يُطلق على كل من ينتمي إلى الجنوب أو الطبقات الفقيرة والمهمشة.
وبهذا باتت كلمة “شروكي” تطلق على البابليين، الكلدانيين، السومريين، الأكديين، وكل الأقوام الأصيلة التي عاشت على أرض الرافدين، أي أن “الشروكية” في حقيقتها تعني أبناء البلد الحقيقيين، لا الوافدين أو الطارئين عليه.
ورغم محاولات البعض طمس هذا المعنى العميق وتحويل الكلمة إلى أداة للسخرية أو العنصرية، إلا أن أبناء الجنوب — بوعيهم وثقافتهم وارتباطهم العميق بجذورهم — أعادوا إحياء الكلمة بمنظور جديد، وجعلوا منها عنواناً للفخر، والانتماء، والهوية، بل وأعادوا الاعتبار لها لتكون رمزاً للثبات والمقاومة في وجه التهميش والتضليل.
“الشروكية” ليسوا مجرد وصفٍ جغرافي أو لهوي، بل هم قصة كفاح طويلة، وذاكرة ممتدة من التضحيات، والإسهامات في بناء الدولة، والدفاع عن الأرض، ورفد المؤسسات بكفاءات مشهود لها في جميع المجالات: من الطب، إلى التعليم، إلى الأدب، إلى السياسة والإعلام.
إنهم شعبٌ عظيم، متجذر، يختزن طاقات جبّارة ومواهب متعددة، لو أُتيح لهم المناخ المناسب وتم تمكينهم فعلياً، لأحدثوا تحولاً كبيراً في مستقبل العراق.
إن من يحاول تسطيح كلمة “شروكي” أو الانتقاص منها، إنما يعكس جهلاً بالتاريخ، وضيقاً في الأفق، لأن هذه الكلمة اليوم باتت تمثل إرثاً وهويةً وصوتاً لا يمكن إسقاطه أو تجاهله
https://telegram.me/buratha
