محمد جواد الدمستاني
روي عن أمير المؤمنين عليه السلام قوله «وَ إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ وَ مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ». نهج البلاغة - كتاب رقم 62
و الْأَرِقُ أي كثير السهر، أو من يمتنع عليه النَّوم ليلاً ، يقولون :عندي أرق أي أنّه لا يأتيني النوم، و في الحكمة هنا « إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ » كناية عن المتيّقظ و المنتبه، فصاحب الحرب لا ينام بل يظل يقظا منتبها لأي طارئ، والذي ينام لا ينام عنه الآخرون.
و المعنى إرشاد إلى اليقظة والانتباه و الحذر و عدم الغفلة عن العدوّ، و في حالة الغفلة فإن العدو ليس غافلا بل منتبها، و ليس نائما بل مستيقظا. بل العدو ساهر، يتربص بخصمه الدوائر و يسعى و يعمل لهزيمته و إزالته و ربما قتله و إبادته.
و كلما زادت غفلته زاد طمع عدوّه فيه، و كل ما زاد انتباهه و بصيرته و قويت شوكته قل طمع عدوّه و ضعف عن مهاجمته.
و هذا مقطع من كتاب له عليه السلام إلى أهل مصر مع مالك الأشتر لما ولاه إمارتها و أوله : أَمَّا بَعْدُ فَإِنَّ اللَّهَ سُبْحَانَهُ بَعَثَ مُحَمَّداً (صلى الله عليه وآله) نَذِيراً لِلْعَالَمِينَ وَ مُهَيْمِناً عَلَى الْمُرْسَلِينَ ..وآخره : وَ إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ وَ مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ.
و في كتاب الغارات: « إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْيَقْظَانُ الْأَرِقُ، وَمَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ». الغارات،ج١ص ٤٢٨.
سياق النص في الأمور العسكرية فقد قال عليه السلام: « أَ لَا تَرَوْنَ إِلَى أَطْرَافِكُمْ قَدِ انْتَقَصَتْ، وَ إِلَى أَمْصَارِكُمْ قَدِ افْتُتِحَتْ، وَ إِلَى مَمَالِكِكُمْ تُزْوَى، وَ إِلَى بِلَادِكُمْ تُغْزَى، انْفِرُوا رَحِمَكُمُ اللَّهُ إِلَى قِتَالِ عَدُوِّكُم،ْ وَ لَا تَثَّاقَلُوا إِلَى الْأَرْضِ فَتُقِرُّوا بِالْخَسْفِ، وَ تَبُوءُوا بِالذُّلِّ، وَ يَكُونَ نَصِيبُكُمُ الْأَخَسَّ، وَ إِنَّ أَخَا الْحَرْبِ الْأَرِقُ وَ مَنْ نَامَ لَمْ يُنَمْ عَنْهُ».
و لكن المعنى عام أمر باليقظة و الانتباه من العدو وعدم الغفلة دائما، وخاصة في أزمنة الأزمات و الصراعات و الحروب، و الحروب ليست بالضرورة عسكرية بالسلاح، بل هي متعددة كأن تكون بالإعلام و بالفضاء الالكتروني،و بالاقتصاد و بالحصار، و قد تكون بالمياه و الكهرباء، و بوسائل متعددة منها ما نعلم ومنها ما لا نعلم.
و روي قريب من هذا المعنى عنه عليه السلام «مَنْ نَامَ عَنْ عَدُوِّهِ أَنْبَهَتْهُ الْمَكَايِدُ»، أي من غفل عن عدوّه و لم يتيقظ له، أنبهته أو نبّهته أو أيقظته مكايد و مؤمرات و خداع و مكر العدوّ، لأنّه غافل نائم و عدوّه متيقظ يكيد له.
و الحكمة عامة الزمن و المكان و لكنها في حالتها السلبية أي حالة السبات و عدم الاستعداد تنطبق على وضع الدول العربية الحالي فهي دول غافلة نائمة و عدوّها مستيقظ يكيد لها و يتآمر، ثم أنّها فاقدة القدرة على التشخيص أيضا فلا تميز عدوّها من صديقها، و قد تعتبر بعضها من يشترك معها في المشتركات من دين و محيط اجتماعي و عادات ثقافية و جوار جغرافي و تاريخ عدوّ و تتآمر عليه، و تعتبر عدوّه الحقيقي و من يكيد لها ليلا و نهارا صديقٌ مقربٌ تتعاطى معه في الخفاء و تطبع معه العلن.
و الحكمة ترشد أيضا إلى ضرورة أن يكون عند الإنسان بنية عسكرية جاهزة و استراتيجية واضحة بعيدا عن الغفلة و النوم و هو الأصل في الدول، و هذا يذكّر ببعض الأصوات في القنوات الإعلامية الناطقة باللغة العربية فهي تصرخ و تصدح شاكية باكية أن البلد الفلاني عنده خطة، البلد العلاني عنده استراتيجية، و البلد الفلاني عند مشروع، و هذا عجيب لأنّ الأصل أن يكون عند الدول مشاريع و خطط و استراتيجيات، و من فقدها عنده وجدها عند خصمه. العتب و اللوم يقع على من لا يملك مشروعا و لا خطة و لا استراتيجية و كل هذا ينبغي أن يكون مبني على خدمة الشعوب و البشرية لا تآمرا أو تواطئا عليهم ظلما و جورا.
و هذا مغزى الحكمة فمن نام لم ينم عنه، و من كان بلا استراتيجية و لا خطة عمل و لا مشروع تنموي و لا نهضوي، فإنه خصومه ليسوا كذلك، بل لديهم استراتيجيات و خطط و مشاريع.
وقد ذكرت عدة توصيات لأمير المؤمنين عليه السلام في نهج البلاغة تتعلق باليقظة والانتباه في الحرب و التحذير من الاطمئنان للعدو منها ما ورد في كتاب آخر له عليه السلام إلى أهل مصر لما ولّى عليهم مالك الأشتر النخعي، كتب عليه السلام « أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ بَعَثْتُ إِلَيْكُمْ عَبْداً مِنْ عِبَادِ اللَّهِ لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ، ..أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ». نهج البلاغة- كتاب 38.
كناية عن يقظته و انتباهه و حذره و التفاته فهو « لَا يَنَامُ أَيَّامَ الْخَوْفِ»، و كناية عن قوته و شدته و حزمه فهو « أَشَدَّ عَلَى الْفُجَّارِ مِنْ حَرِيقِ النَّارِ».
ومنها الحذر في زمن الحرب عامة، قال عليه السلام «وَ إِذَا غَشِيَكُمُ اللَّيْلُ فَاجْعَلُوا الرِّمَاحَ كِفَّةً، وَ لَا تَذُوقُوا النَّوْمَ إِلَّا غِرَاراً أَوْ مَضْمَضَةً»، نهج البلاغة، كتاب 11، وهي أيضا إشارة إلى اليقظة و الحذر و النوم القليل و عدم الغفلة عن العدوّ.
و روي عنه عليه السلام عدة روايات و حكم في هذا المقام من الانتباه إلى العدوّ و عدم الغفلة عنه، و عدم استصغاره أو الاستخفاف بقدراته مهما صغر أو ضعف، «لَا تَسْتَصْغِرَنَّ عَدُوّاً وَ إِنْ ضَعُفَ»، غرر الحكم،ص ٧٤٦.
و لا تأمن و تطمئن أو تركن للعدوّ مهما شكر و أظهر لطفا أو بشاشة أو هشاشة أو تظاهر بصلح فإنّه عدوّ ينبغي الحذر منه و «لَا تَأْمَنْ عَدُوّاً وَ إِنْ شَكَرَ». غرر الحكم،ص٧٤٥ ، فلا تتوقف عن حماية نفسك و أهلك و بلدك و تتراخى عن الاستعداد و التهيئة و تغفل استنادا إلى هذا الشكر فيمكن أن يكون هذا الشكر للخداع و المناورة و الالتفاف.
و كل الغرور و الانخداع هو في الغفلة و التناوم أو النوم عن العدوّ، و الاطمئنان إليه أو الثقة به، «جِمَاعُ الْغُرُورِ فِي الِاسْتِنَامَةِ إِلَى الْعَدُوِّ». غرر الحكم،ص٣٤٠.
و من الانتباه و اليقظة مناصرة الوليّ و الأخ و الصديق و الجار بالحق لصد العدوّ المشترك، و إلا فإنّ الغفلة عن هذه المناصرة ستفاجئ الغافل و النائم عن النصرة بوطأة و إقتحام العدوّ لبلده و داره، «مَنْ نَامَ عَنْ نُصْرَةِ وَلِيِّهِ انْتَبَهَ بِوَطْأَةِ عَدُوِّهِ»، غرر الحكم،ص٦٣٠
و سياق النص و إن كان في الأمور العسكرية و لكن المفهوم العام هو أن يكون الإنسان متيقظا منتبها في جميع شؤون حياته، و مع توسعة المعنى فإنّه يشمل أيضا القضايا الاقتصادية و المالية، و كذلك الجوانب الاجتماعية و التربوية خاصة في هذا الزمن فإذا ما غفل الإنسان عن تربية أولاده و العناية الكاملة بهم مثلا فإنّ عدوّه سيقوم بالمهمة بصياغة هويتهم و شخصيتهم غير هويته و شخصيته الإيمانية.
فالدعوة من أمير المؤمنين عليه السلام مستمرة و دائمة للتيقظ و الانتباه و العمل و الحركة و النشاط، كذلك للوعي و البصيرة ، و عدم الغفلة و الإهمال و النوم في كل الجوانب، و من نام لم ينم عنه.
اللهمّ نبهنا من نومة الغافلين، و الحمد لله ربّ العالمين، و صلّ اللهم على محمد و آله الطاهرين.
https://telegram.me/buratha