( بقلم : كمال ناجي )
لم يكن بالشيء المستغرب أن تلجأ المليشيات إلى استغلال أي متغير أو قضية تطرق الساحة السياسية بغية لملمة أوضاعها المنهارة و محاولة إرجاع توازنها المفقود .. من هنا و مع بداية الحديث في وسائل الإعلام عن الاتفاقية الأمنية المزمع توقيعها بين الجانبين الأمريكي و العراقي سارعت هذه المليشيات و واجهاتها السياسية إلى استغلال ما يمكن أن يكون طوق نجاة في وقت غاية في الحرج بالنسبة إليها وهي تغرق في بحر هزيمتها و عجزها عن استرداد قوتها و نفوذها و " هيبتها " التي توحّلت بأرض سبخة و هشة كانت تقف عليها متحدية هيبة القانون و نظام الدولة . منافذ هذا الاستغلال كان نتيجة البنود المجحفة بالسيادة العراقية و التي تريد فرضها واشنطن و هو ما رفضته الأحزاب السياسية العراقية و الحكومة الوطنية و كل الفعاليات الشعبية و الرسمية . فحاولت هذه المليشيات أن تبدو و كأنها الجهة الوطنية الوحيدة الحريصة على مستقبل البلد و قد لاقى هذا الموقف المفضوح استهجان الكثير من المواطنين الذين رأوا بكل بساطة أن الموقف لا يعدو أكثر من حالة انتهاز رخيصة لاستعادة الصخب و الجلبة و الضوضاء التي تستمد منها هذه المليشيات و حزبها السياسي قوتها و تثبت لأتباعها أنها لا زالت فاعلة وقادرة على التأثير و إشغال الرأي العام بطنين خطاباتها و رنين تبجحاتها الفارغة .
و قد أصيبت بعد وقت قصير للغاية بخيبة أمل واضحة فتراجعت تصريحات قادتها و قلّت الوجوه الكالحة التي تظهر علينا في شاشات الفضائيات لتترنم بإرثها النضالي المدَّعى و مواقفها الوطنية الفريدة و التي لا ترقى إليها مواقف الآخرين فالجميع في نظرهم إلا هم غير وطنيين و عملاء للمحتل و إلى آخر المعزوفة الصدرية البالية . إزاء هذا الواقع كان لا بد من التفكير بأسلوب آخر لا يترك الفرصة تتسرب من أيديهم و تمضي قضية الاتفاقية دون مكاسب خاصة لا سيما مع حقيقة إن الحكومة و الأحزاب الوطنية عبرت بعمق عن انتمائها لقضايا وطنها و مواطنيها و شعر المواطنون بالطمأنينة و السكينة و الثقة المتزايدة بأنه لا يمكن بحال من الأحوال توقيع أية اتفاقية أو معاهدة لا تلبي مطامح و أهداف الشعب العراقي و تكفل له السيادة الكاملة و الناجزة . إن ابرز ما تعانيه المليشيات الآن هو الانقسامات المتواصلة بين صفوفها و لا شك فإن محاولة وقف هذا التدهور يعد المهمة الأولى و الأخيرة لها في الوقت الحاضر . من هنا رأى قادة هذه المليشيات ثمة فرصة في تلافي سلّم الانهيار الدراماتيكي و لملمة شتات العصابات الخارجة عن القانون فلماذا لا تكون قضية الاتفاقية هي الأكسير السحري لتحقيق ما يبدو أقرب إلى المستحيل ؟
و انطلاقا من هذا التصور قذفت بعض المسميات المليشياوية بتهديدات فارغة تستهدف الحكومة العراقية و تحذرها من شن حرب ضدها و جاءت هذه التهديدات من عنوانين بائسين يثيران السخرية هما " عصائب أهل الحق " و " كتائب حزب الله " و كلاهما مجاميع خاصة من مليشيا جيش المهدي . الاسم الأول عرف منذ فترة و تجد بعض أقراص السي دي لعملياتها الإجرامية متداولة بين أفراد جيش المهدي و أما الاسم الثاني فهو محض كتائب وهمية و يعمق العنوان المختار بدقة من فكرة انه عنوان مقصود يراد له أن يحي بدلالته الواضحة و التي تنكشف بمراعاة حقيقة سعي شراذم المليشيات للتشبه بحزب الله اللبناني الذي يمثل المقاومة ضد الكيان الصهيوني و يتعلق بالوضع الخاص الذي يعيشه لبنان . إن تزامن التهديدات من هذين التنظيمين الإجراميين العميلين لأجهزة مخابرات خارجية تسعى إلى قلقة الوضع العراقي الداخلي أريد من خلاله إرسال رسالة واضحة بأنهما ينتميان على نفس الجهة و يصدران من مورد واحد في هذا الموقف . هذه الجهة التي تتمثل كما هو واضح بمليشيات جيش المهدي التابعة لما يعرف بالتيار الصدري تحاول من وراء هذه الحركة المكشوفة الضغط على الحكومة لتخفيف قبضتها على بقايا العصابات الخارجة عن القانون و تحاول الإيحاء بأنها لا زالت قادرة على تهديد الحكومة و قواتها الأمنية و خلخلة الأوضاع و تعقيدها وهي تمثل سعيا من خلال انقسام العناوين إعلاميا إلى لملمة شراذمها على الأرض بوحدة الشعار و ضوضاء الاعتراض . بالطبع فإن هذه المحاولة الفاشلة مسبقا تسعى إلى تركيب حطام و جذاذ الوحش الكارتوني لمليشيات جيش المهدي و إعادة شيء من الهيبة لها بعد سقوطها المدوي على اثر العمليات العسكرية الأخيرة خلال الأشهر الماضية في أكثر من محافظة . بقي إن لغة وصياغة البيانات من الكتائب و العصائب هي نسخة مطابقة تماما لخطابات القائد الفلتة ، وهذه مقتطفات من البيان الفارغ لما يطلق على نفسه بكتائب حزب الله : " إننا وفي الوقت الذي نحذر فيه حكومة المالكي والمتخندقين معها من قبول هذه المعاهدة المذلة وتمريرها فإننا في كتائب حزب الله أمام الله وأمام شعبنا وجميع الأحرار في العالم نعلن الاستمرار في مقاومة الاحتلال وسيرى خلال المستقبل القريب ما يجعل المخارج تضيق عليه ويصل إلى مرحلة الجزع والانهيار " ، " ... نرى أنكم قد اتخذتم قراركم بالانحياز الكامل إلى الاحتلال والارتماء الكامل في أحضانه وتركتم أبناء شعبكم يواجهون مصيرهم ضد الاحتلال مرة وضد الفساد المالي وسرقة ونهب خيرات العراق من المحسوبين على الحكومة والداخلين في العملية السياسية مرة أخرى " ..
و ما يلاحظ على الأسطر السابقة الأخيرة أنها حكمت بشكل قاطع على الحكومة بالوقوف إلى جانب الاحتلال أي بمعنى الموافقة على الاتفاقية مع أن الموقف الحكومي و موقف الأحزاب المشاركة في الحكومة معروف و يكرر يوميا رفضه لبنود المعاهدة ، كذلك تتناقض هذه الأسطر مع الأسطر الأولى الواردة في البيان البائس و التي حذرت الحكومة من مغبة توقيع الاتفاقية و عكست أن الموقف سيتم اتخاذه في حال التوقيع عليها .. و هذا الأمر يشير بوضوح إلى ما قلناه سابقا من أن المسألة لا تتعلق بقضية الاتفاقية بل باستغلال الموقف الحالي الذي خلقه اللغط و الأخذ و الرد حول الاتفاقية لأجل إنعاش حضور المليشيات و تدعيم أركان وهمها في استعادة نفوذها على الشارع . و بلا شك فإن الأهداف التي سعت إليها المليشيات و من هم وراءها لن تتحقق و ما هي إلا أحلام بعيدة و ضالة و ليس في تهديداتها ما يستحق إشغال البال و كما قال السيد هادي العامري رئيس لجنة الأمن و الدفاع في مجلس النواب : إن هذه التهديدات لن تخيف العراقيين لأنها موجودة على الانترنت فقط ..
https://telegram.me/buratha