( بقلم : اسعد راشد )
في مقال سابق وتحت عنوان "الاتفاقية الاستراتيجية مع واشنطن والثمن المطلوب" بتاريخ 19/2/2008 طرحنا بعض التساؤلات حول الاتفاقية الامنية والاستراتيجية المزمع عقدها بين بغداد وواشنطن وطرحنا فرضيات مواقف المرجعيات الدينية على خلفيات تاريخية و قلق تلك المرجعيات الشروع من الاتفاقيات غير واضحة المعالم والتي في بعض منها قد تباع الاوطان وتنتهك فيها سيادتها وتضيع في خضمها حقوق الناس والاغلبية وقد استحضرنا الذاكرة الشيعية ازاء مثل تلك الاتفاقيات والتي ادت الى ثورات شعبية مناهضة لاصل الوجود الاجنبي في بلاد المسلمين كثورة التنباك (التبغ) في ايران والتي قادها مراجع عظام للشيعة اتخذوا من العراق وباالذات من مدينة العسكريين منطلقا لقيادة تلك الثورة الدينية الشعبية في القرن الناسع عشر والتي اسقطت تلك الاتفاقية التي عقدها ناصر الدين شاه مع البريطانيين والتي اعطت الاخيرة امتيازات في فحواها لا تختلف عن تلك التي يريدها الامريكيون في الوقت الحاضر من الاتفاقية الجديدة مع حكومة الدكتور السيد المالكي ومن هنا ايضا نفهم لماذا حذّر احد المراجع الدينيين الشيعة الكبار في كربلاء متمثلا بمرجعية السيد تقي المدرسي من ثورة شعبية في حال توقيع "الاتفاقية الامنية" التي يريد الامريكيون تمريرها في صيغتها المطروحة وهو ما دعى المدرسي الى اطلاق التحذير منها دون ان يرفضها كليا وذلك من خلال وصفها بانها تفتقد الى "الرؤية المعمقة والشمولية" مستذكرا بالطبع في قراءته التاريخية لثورة الشيعة في العصور الماضية ضد المستعمرين الانجليز وهو الامر ذاته ايضا الذي دفع بالشعب الايراني مجددا الى الانتفاضة في 15 خرداد (حزيران) من عام 1963 ضد نظام الشاه بقيادة الامام الراحل السيد الخميني (طاب ثراه) وقد اتخذ الامام الراحل من الاتفاقيات التي عقدها الشاه السابق مع الامريكيين سببا لبدأ حملته وانتفاضته ضد نظام الشاه تلك الاتفاقيات التي تضمنت امتيازاتا واسعة للامريكيين في ايران ومنها "عدم تعرض الامريكيين للملاحقة القانونية من قبل القضاء الايراني فيما لو ارتكبوا جرائم في البلاد" .. وصلة الى المقال السابق:http://burathanews.com/news/36141.htmlومن نفهم ايضا لماذا اشترطت المرجعية الدينية في النجف متمثلا في الامام السيستاني وضع اربع نقاط كشرط في الاتفاقية المزمع عقدها مع الولايات المتحدة وعلى رأسها السيادة الوطنية وهو ما يعني ايضا ان تكون هناك "رؤية معمقة وشمولية" والتي تفتقرها تلك الاتفاقية المزمع عقدها في صيغتها المطروحة امريكيا كما صرح بذلك السيد المدرسي والتي قال عنها بانها "ستمني بالفشل الذريع اذا ما بقيت على ما هي عليه"! وهذا ان دل على شيء فانما يدل على الموقف الموحد للمرجعية الدينية على امور ثلاثة مهمة :
اولا: رفض الاتفاقية المطروحة في صيغتها الامريكية .
ثانيا: اجراء دراسة معمقة وشمولية على الاتفاقية المذكورة كي لا تكون سببا وباعثا على عدم استقرار العراق وبالتالي ثورة شعبية مثلما حذر منها السيد المدرسي .
ثالثا: عدم رفض الاتفاقية كليا حيث لابد لاي دولة مستقلة ان تكون لها معاهدات واتفاقيات تنظم شئون العلاقات مع الدول على اختلاف مشاربها وهذا ما دعى الامام السيستاني احد اكبر المراجع الشيعة الدينيين الى وضع اربعة نقاط في عين الاعتبار في حال اقدام الحكومة على التوقيع على الاتفاقية "السيادة الوطنية‘ الاجماع الوطني‘الشفافية‘ وان تعرض الاتفاقية على البرلمان" وان "لا تبقى على ما هي عليه كي لا تمني بالفشل الذريع" كما جاء في خطاب السيد المدرسي.
والمفارقة الوحيدة والجيدة في مثل هذه المواقف المرجعية هي الاتفاق على عدم رفضها كليا والاتفاق ايضا على رفضها في صيغتها الحالية المطروحة امريكيا هذه المفارقة تشير الى الوعي الشيعي الجمعي شعبيا ومرجعيا في ان لا يلدغوا من الجحر ذاته مرتين او اكثر وذلك في استعادة جمعية لوعي تاريخي في ان لا يكونوا من خلال مواقفهم الجديدة في الهامش والعزلة وان يثبتوا في ذات الوقت حضورهم ودورهم في بناء المستقبل السياسي بعيدا عن المزايدات وقليلا من الشعارات!
اذن نحن امام مفترق طرق مهمة وتاريخية في علاقاتنا الدولية خاصة مع قوى عظمى لها حضور ملموس سياسيا وعسكريا على الارض يتطلب عدم التفريط اولا بالسيادة الوطنية وثانيا عدم تفويت الفرصة التاريخية في علاقاتنا مع القوى المؤثرة على السياسة الدولية وبالتالي على مجريات الاحداث والتحولات في بلدنا العراق وذلك في ان نكون حذرين في عقد اي اتفاقية مع القوى الدولية وعلى رأسها الولايات المتحدة والتخلص من البند السابع في قانون الامم المتحدة كي لا نعيد تجارب ثورة التنباك ولا انتفاضة 15 خرداد وفي ذات الوقت ان لا نكون متزمتين ولا متطرفين في رفضنا الاتفاقيات مع الدول كي لا نعيد تبعات ثورة العشرين المظفرة والتي كانت من حيث المبدأ فخرا ونقطة مشرقة في تاريخ العراق السياسي ودور المرجعية الشيعية الا انها من حيث النتائج حصدها غيرنا وذهبت الدولة العراقية لتبنى بشكل معوج حتى وصلت الى ابن العوجة ليعوجها اكثر فازدهرت في ظلها المقابر الجماعية وغيب ابناء الاغلبية في عتمات السجون .
ومن هنا جاء الموقف الشيعي واعيا ويقظا ليضع النقاط على الحروف ويكشف بشفافية ما يدور في كواليس المناقشات والمفاوضات رغم التهويل والتشويش العربي على ما تزمع حكومة العراق المنتخبة الاقدام عليه ورغم الدعايات السلبية والتحريض الاعلامي والخطابي ورغم ان الاتفاقية المطروحة امريكيا ليست باقل من تلك الاتفاقيات التي عقدتها حكومات المنطقة العربية مع الامريكيين وعلى رأسها دولة قطر وحكومة البحرين تلك الاتفافيات تلزم حكومات تلك البلاد عدم ملاحقة الامريكيين قانونيا اذا ما ارتكبوا جريمة في بلادهم ورفع اي قيود اورقابة على دخول اي شئ يتعلق بالقواعد الامريكية ووجودهم وعدم اطلاعها على هوية اي شخص يدخل الى تلك البلاد او يخرج منها !
اما الموقف السني فمازال ليس فقط غامضا وتكتنفه الضبابية بل هناك مزايدات يمارسها الاعلام على الموقف الشيعي رغم ان اكثرية الزعامات السنية السياسية وحتى الدينية العراقية صامتة وهي تترقب اختفت منه تلك الخطابات الثورية وصارت الوطنية فقط تحريك الاعلام العربي والتشويش على الموقف الشيعي بمعنى ان الاعراب هم من يتبنون الموقف السني دون ان يكون لزعامات الداخل موقف واضح وهو ما فسره البعض على انه ينطوي على امرين :
اما الرضى بالاتفاقية المزمع عقدها بكل ما تتضمنها من ايجابيات وسلبيات ..
واما بانتظار ما قد يكون هناك من وعد لاعطاءهم دور سياسي بارز في العملية السياسية !
في كلتا الحالتين فان الموقف السني يثير الشبهة والشكوك ليس لكونه ضبابي فحسب بل هناك من المراقبين من وصفه بانه انتهازي لا يرقى الى مستوى ما كانوا يروجون له من "مقاومة" و"وطنية" مزعومة !
https://telegram.me/buratha