( بقلم : د. خزعل فارس الجابري )
منذ سقوط النظام البائد تشرذم قطيع أجهزته القمعية و أتباعه هنا و هناك و كانت أيسر الطرق للخلاص من ملاحقة أبناء الشعب العراقي الأبيّ هو الاندساس في بعض من القوى السياسية و العمل تحت لافتاتها و ادعاء الانتماء إلى الرموز الدينية التي يحترمها عامة الشعب . و من بين الفرص الذهبية التي تم توفيرها لهم هو إنشاء و تشكيل مليشيات مسلحة فكانت بحق هدية غير متوقعة كون العمل في المليشيات يوفر لهم أولا ضمانة من الملاحقة الشعبية و ارتداء قناع مخادع لتحقيق جملة من الأهداف ، و ثانيا التواصل في سلوكيات دموية و إجرامية يصعب عليهم العيش بدونها كما كانوا يفعلون ذلك في السجون و المعتقلات حيث ترى أحدهم و هو مستأنس بثياب ملطخة بالدم و ببقايا بشرية كشعر الرأس و أطراف الأظافر التي تعلق بهم أثناء تعذيب غاية في البشاعة للمواطنين ولأن طبيعة المليشيات أينما كانت هي الخروج عن القانون و استباحة الحرمات و هذا ما كان من انضمام عدد وافر فيما يعرف بجيش المهدي .
و خلال الأشهر القليلة الماضية تعرضت هذه المليشيات " جيش المهدي " لضربات موجعة و تم تقليم أظافرها و نزع مخالب غدرها و عدوانيتها التي تطال المواطنين الأبرياء في أكثر من المنطقة ، و بالفعل فقد تم لجمها و تفكيكها و القضاء على مواطن قوتها في أكثر من محافظة عراقية في الوسط و والجنوب . بلا شك فإن هذا الأمر أزعج إلى حد كبير فلول البعث المهزوم و القوى الطائفية التي كانت تراهن على هذه المليشيات لا انسجاما معها في الانتماء أو اشتراكها في مبدئية معينة قدر ما تحرص هذه الأطراف المعادية للعراق بوجهه الجديد على ديمومة حالة عدم الاستقرار و تعميق الاضطرابات و الانشقاقات و الحروب بين المكونات العراقية أو المكون الواحد أيضا . و لهذا فقد كان الإعلام العربي و القومجي البعثي يظهر تودده و تعاطفه مع هذه المليشيات و هو و إن لم ينس لها ما كان قد ألحقته من أذى ببعض المكونات العراقية فإن المكر و الخداع كان يوجب عليها مساندتها بطريقة أو أخرى .. كمثال على ذلك يمكن النظر إلى قناة الشرقية البوق البعثي الأكثر نشازا على الساحة الإعلامية و كيف انقلب مائة و ثمانين درجة ليغطي أثناء المواجهات الأخيرة المساحة الخبرية المتعلقة بالموضوع بشكل يظهر الكثير من التعاطف مع مليشيات جيش المهدي ما دام الهجوم على الحكومة أمر يقع في مصلحة الطرفين . و مثلها البوق القطري المسمى بقناة الجزيرة . و على أية حال فإن اللعبة الجديدة المكشوفة الأهداف و الأغراض و مفضوحة النوايا جاءت لتؤكد الحقيقة التي طرحناها حيث انقسم عدد من البعثيين فيما يعرف بالصحوات لتشكيل تنظيم مليشياوي جديد يدعي أنه يريد مقاومة الأمريكان و الاحتلال الفارسي الأكثر خطرا على العراق ، بالطبع فإن بعضا من السذج سيرى أن هذا التحرك يستهدف الاحتلال الأمريكي و " الشيعة " بشكل عام " و يأتي ردا على ما أخذ يرسخ من معادلة سياسية جديدة هي نقبض ما كان في السابق أيام صدام المقبور . غير أن القراءة المتأنية توقفنا على حقائق أخرى أكثر قوة . فالاحتلال الفارسي لا يقصد منه سوى الأحزاب الشيعية و الحكومة العراقية و ينصرف إلى قوى سياسية بعينها كما تم ترديده من قبل في أكثر من مناسبة و كان هؤلاء الشراذم قد أعلنوا في الرمادي قبل الإطاحة بهم على يد القبائل العراقية هناك تأييدهم المطلق لمقتدى الصدر الذي وصفوه بأسد الكوفة و لمليشياته التي قالوا عنها إنها مقاومة أهلنا الشيعة الأحرار الذين يرفضون الاحتلال الفارسي . تأتي هذه اللعبة لمنح جيش المهدي جرعة أوكسجين لأجل الحياة أطول فترة إضافية ممكنة فلا شك إن التهديد السابق سوف يتم الترويج له عن طريق الصدريين بأنه تهديد للشيعة و بالتالي على الشيعة و المراجع الدينية و السياسية أن تأخذ بنظر الحسبان تلك المقولة التي رددها صلاح العبيدي من أن جيش المهدي هو صمام أمان في ظل المعادلة السياسية و احتمالات الواقع و حساباته و أنه أي جيش المهدي هو ضرورة لضمان مصالح الشيعة مع واقع وجود مليشيات أخرى و نسب ذلك زورا و بهتانا إلى المرجعية.
و تأتي هذه الخطوة في محاولة واضحة لإضعاف موقف القائلين بأنه لا توجد مليشيات تهدد المكون الشيعي كما يصوره الصدريون لا سيما في لقاءاتهم الخاصة أو في بعض التسريبات الصحفية هنا و هناك لا سيما و أن الشيعة هم في الحكم و لديهم تمثيل كبير في البرلمان و عدد كبير من المناصب الأمنية الحساسة فهم في موقع أكثر قوة من أي طرف آخر على الإطلاق و غيرهم أولى منهم بالخوف و طرح حسابات من هذا النوع . إن اللعبة البعثية الجديدة خطوة محسوبة و لكنها تنطوي على غباء المخططين لها و الذين تجاهلوا إن وعي العراقيين أكبر من أن تنطوي عليه ألاعبيهم العبثية . يمكننا تلخيص الأهداف من وراء هذه اللعبة إجمالا بالآتي :
أولا : خلق مبررات داخل المجتمع الشيعي للتعاطف مرة ثانية مع مليشيات جيش المهدي لعله ينقذ حالة الانهيار المستمرة في صفوف هذه المليشيا و سطوتها . لأن تمتعها بقوة ما يصب في مصالح تلك الأطراف المعادية للشعب و إدامة حالة القلق و اللا استقرار و استنزاف للجهود و الطاقات و إلهاء الشيعة تحديدا بمعارك داخلية لا تصب إلا في مصلحة أعداء العراق .
ثانيا : محاولة دفع بقايا هذه المليشيات للقيام بأعمال إجرامية ضد المكونات الأخرى " المكون السني على وجه التحديد " للنيل من حالة الاستقرار و استتباب الأمن لا سيما في العاصمة بغداد و محاولة إعادة صورة روبن هود الشيعي . و هو مطلب ينسجم و رغبتهم في إبقاء الجهد الحكومي منصبا على الجانب الأمني و تقليص فرص إعادة الإعمار و توفير الخدمات و هو الملف الذي يمثل المورد الوحيد الآن للإعلام البعثي و القومي الطائفي المعادي للوضع العراقي الجديد و بدونه سيفلس هذا الإعلام إفلاسا كاملا
ثالثا : محاولة خلق حالة من التناغم الجديد بين هذه القوى و الصدريين – كما كان من قبل بين مقتدى و حارث الضاري - على خلفية مناوئة الطرفين للأحزاب و القوى السياسية الشيعية و اتهامها بكونها تمثل الذراع الإيراني في العراق مع أن القاصي و الداني أصبح على معرفة و اطلاع كاملين من أن المليشيات هي أكثر الأطراف المدعومة من إيران و القائد الضرورة الجديد يقبع منذ أشهر طويلة في قم و يتلقى التعليمات من السلطات الإيرانية كما فضحت ذلك قضية الاتفاقية و الاعتراض عليها حيث جاءت دعوة مقتدى لأتباعه بالتظاهر بعد يوم واحد من إعلان الطرف الإيراني أنه سيعمل بكل ما وسعه من جهد لعدم التوقيع على هذه الاتفاقية وصوّر الإعلام الإيراني القوى و الأحزاب السياسية العراقية الشيعية تحديدا كونها خاضعة لواشنطن و خائنة للإسلام باستثناء التيار الصدري ، هذا مع أن موقف الحكومة و هذه الأحزاب كان واضحا منذ اللحظة الأولى من أن الاتفاقية يجب ألا تعارض مفهوم السيادة الوطنية و سيتم مناقشتها في البرلمان .
https://telegram.me/buratha