( بقلم : حميد الشاكر )
(( ظاهرة حلف الفضول القرشية ))
1 : - ماهية الاحلاف تأريخيا .
يذكر في التاريخ العربي ماقبل الاسلامي الكثير من الظواهر الاجتماعية المتنوعة ولاسيما منها ظواهر الاجتماعات والبنى القبلية القائمة على فكرة القوة والعصبة التي تفرضها طبيعة المنطقة العربية الجغرافية وغير الجغرافية ، ومن هذا الواقع أنتج الكثير من الظواهر الانسانية المتصلة بظاهرة الصراعات والحروب والنزاعات .... التي كانت متواجدة بكثافة باعتبار غلبة قانون القوة آنذاك على مساحة واسعة من الحياة العربية ، وهذه او تلك الصراعات والحروب والغزوات ...... وباقي النزاعات ، انتجت وبشكل طبيعي ظواهر اجتماعية ملحقة بتلك الظواهر الحربية والشبه سياسية واقتصادية ايضا ، وهذه الظواهر هي ظواهر التعاقدات والتحالفات والتكتلات والتجمعات ..... القبلية وغير القبلية العربية التي كانت تبحث عن صناعة القوة من جهة وصناعة المنعة من جانب آخر ، فكانت تلك وهذه التحالفات الاجتماعية من أهم الظواهر الاجتماعية العربية التي تساهم وبشكل جوهري في فهم تركيبة مجمل الاجتماع العربي داخل مكة أم القرى العربية وخارجها في الانتشار العربي الجزيري آنذاك !.أن حلف الفضول المذكور سيريا وتأريخيا هو من ضمن التحالفات التي اشرنا لها باعتبارها من اهم الظواهر السياسية الاجتماعية التي كانت منتشرة بشكل واسع على سطح الاجتماع العربي المكي القرشي بالخصوص والعربي بالعموم ، لكنّ مع ميزة اصيلة لهذا الحلف الاجتماعي هو مادفعنا لانتخابه بالخصوص باعتباره علامة فاصلة ومحورية جوهرية في فهم العلاقات وبناها الاجتماعية العربية التي كانت قائمة داخل مكة بالذات مهد ونواة وبقعة ولادة الرسالة الاسلامية العظيمة ، الا وهي - المميز والميزة - : ان لحلف الفضول أمتداد ين مهمين جدا في فهم بنى الاجتماع القرشي المكي وهما .الاول : أمتداد فكري يعطينا الصورة الكاملة لمميز بنية الاجتماع القرشي المكي وماهية اختلافه .والثاني : أمتداد تحركي بحيث اننا لاحظنا ان لهذا الحلف استمرارية استمرت داخل بنية الاجتماع العربي ومن ثم الاسلامي فيما بعد .ان الامتداد الفكري الذي يؤسس له حلف الفضول فكريا انه الحلف الذي شطر الاجتماع المكي الى صورتين مختلفتين في التوجهات الفكرية والاخرى السياسية والثالثة الاجتماعية ، بحيث اظهر هذا الحلف ان هناك نمطية اجتماعية مميزة داخل الاجتماع القرشي المكي لها تصوراتها المنفلتة عن فكرة ولغة وبنى القبيلة والعصبة آنذاك ، بل ولها رؤية أدارية لاتستقيم الا مع مفاهيم المدن المتحضرة اجتماعية والتي تدرك الدور الذي ينبغي ان تقوم به عصبة حلف الفضول مكيا في (( حماية التنوع من جهة والدفاع عن المظلوم او صاحب الحق قانونيا )) وكلتا هذين البعدين لاريب انهما منتج قيمي مدني وليس هو منتج قيمي عصبوي قبلي !.أما الامتداد الثاني فنحن نجد ان الكثير من الاحلاف العربية الماقبل الاسلامية ، أخذت بالتأثير الاجتماعي العربي والمكي القرشي بالخصوص ، الى مابعد زمن الجاهلية والاسلام ، فأن نفس تلك الاحلاف التي كانت قائمة في مرحلة ماقبل الاسلام ، هي نفسها لعبت الدور الخطير جدا في حركة مابعد الاسلام داخل اطار الاجتماع العربي والقرشي ايضا ، ومن ضمن تلك وهذه الاحلاف الخطيرة كان (( حلف الفضول )) هو الاهم في هذا المضمار حيث استمر هذا الحلف مع ادواته الاجتماعية الى مابعد الاسلام ، بل واعتبار ان التكتلات الاجتماعية التي صنعت هذا الحلف بالذات هي التي ونفسها تحولت الى النواة الاولى التي حملت الرسالة الاسلامية فيما بعد ، لتكون نواته الاجتماعية التي أسس الاسلام على اساسها كل حركته الاجتماعية الانسانية فيما بعد ، وهذا مانلاحظه في الامتدادات الاجتماعية لهذا الحلف مابعد الاسلام عندما ذكره الرسول العظيم محمد ص عندما قال :(( لقد شهدت في دار عبدالله بن جدعان حلفا ما أحب أنّ لي به حمر النعم ولو أدعى به في الاسلام لأجبت / انظر سيرة بن هشاك وكذا تأريخ اليعقوبي ...)) مما يعني ان لهذا الحلف امتدادات استمرت من زمن الجاهلية وحتى الاسلام ، باعتباره الحلف الذي أسس النواة الاولى للاجتماع الاسلامي فيما بعد لاسيما وكما ذكرنا ان اناس هذا الحلف هم نفس اناس الثورة الاسلامية فيما بعد الذي جمعتهم مبادئ هذا الحلف الكريم في الجاهلية ومابعد النور الاسلامي ايضا .
2 : - سبب حلف الفضول .
كانت قريش تظلم في الحرم حتى أتى رجل من بني اسد بن خزيمة بتجارة فأشتراها رجل من بني سهم ، فأخذها السهمي وأبى ان يعطيه الثمن ، فكلم قريش هذا التاجر واستجار بها وسألها أعانته ، فلم يأخذ له أحد حقه فصعد الاسدي مرتفعا من الارض ونادى على مظلمته ... فسعى الزبير بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف ، واجتمعت قبائل قريش في دار الندوة وكانت للحل والعقد ، وكان ممن اجتمع بها من قريش أصحاب حلف المطيبين :(( بنو هاشم بن عبد مناف ، بنو المطلب بن عبد مناف ، وزهرة بن كلاب ، وتيم بن مرة ، وبنو الحارث بن فهر .)) فاتفقوا على ان :اولا : أنصاف المظلوم من الظالم .ثانيا : ان لايجدوا بمكة مظلوما من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس الا قاموا معه .ثالثا : ارجاع الحقوق الى اصحابها بغض النظر عن الجهة التي ينتمي لها صاحب الحق .فسمت باقي التكتلات القرشية الاخرى هذه الاتفاقية بحلف الفضول باعتبار ان ما تعاقد عليه القوم فضولا او زائدا على المعتاد من تصورات الاجتماع القبلية فسمي بحلف الفضول ، والذي هو بطبيعته أمتداد لحلف المطيبين !.
3 : - الدلالات القيمية لحلف الفضول .
لاريب ان القارئ لبنود هذا الحلف وما تمخضت عنه هذه الاجتماعية الانسانية ، سيجد ان هناك الكثير عما تنبأ عنه هذه الظاهرة الاجتماعية القرشية المكية ، فنحن هنا أمام عدة ظواهر اجتماعية مختلفة الملامح ومتباينة الاتجاهات البنيوية الاجتماعية ومن أهمها .اولا : ان هذا الحلف خروج واضح وثورة مبطنة على كل المظاهر والبنى الاجتماعية القبلية التي تنتفي فيها روح التنوع والانتصار للحق من العصبة ، فهنا نحن أمام بنيتين اجتماعيتين مختلفتين ، الاولى ترى ان العصبة يجب ان تكون الحاكمة في مكة والقوة من بعد ذالك يجب ان تسود في الحرم المكي ، بينما نرى البنية الاجتماعية الاخرى - بنية اصحاب حلف الفضول - لها رؤية شبه مدنية تدعوا لجعل مكة مدينة يعلوا على اكتافها القانون الذي لايميز بين فرد واخر او قبيلة واخرى ، وعلى كل القاطنين في مكة ان يلتزموا مبدأ الحق والحقوق للفرد وللجماعة ، ومن هنا كان بند (( انصاف المظلوم من الظالم )) بندأ لايقوم على العصبة ولايقوم على القوة بقدر قيامه على انتصار المجتمع لمبدأ الحق ، ووجوب وقوف المجتمع مع المظلوم لاسناد ضعفه ضد القوة لارغامها على ارجاع الحقوق الى اهلها ، وهذا مبدأ مدني وليس مبدءا قبليا مؤمنا بأن الحق مع القوة وليس القوة مع الحق !.ثانيا : عندما تطرح مجموعة من الناس صيغة قانونية اجتماعية ملزمة لباقي افرادها تقول :(( يجب الانتصار للمظلوم على الظالم بغض النظر عن انتمائه القبلي )) فأن مثل هذه الصيغة هي مع انها ستصطدم حتما مع باقي الصيغ الاجتماعية التي كانت قائمة في مكة ، فهي كذالك صيغة تدلل على ان المؤمنين بها قد ارتفعوا حقا في بنيتهم الاجتماعية ومموناتهم الفكرية الى مستوى اعلى بكثير من مستوى الفكرة العصبوية الضيقة ، فنحن هنا امام فكرة تؤمن ب (( التنوع )) الانساني الذي تفرضه الاماكن المقدسة بطبيعة حالها الجغرافية ، وأمام بنية مستعدة للكفر بأطر القبيلة والانفتاح على الاطار الانساني ورؤيته على اساس الحقوق والواجبات ، وأمام رؤية ترى ان حماية هذا التنوع الانساني والمطالبة بحقوقه المدنية الطبيعية بحاجة الى تكتل اجتماعي يتقدم لتشكيل نواة اجتماعية تكون هي المدافع عن فكرة المدينة ضد من يحاولون تحويل المدينة الى عصبة ....، ولهذا جاءت الانتقادات القرشية لهذا التجمع على اساس انه (( فضول )) ليس له مبرر حسب العقلية القبلية بالاضافة الى انه ربما سيثير الكثير من بنية العصبية والقبيلة التي لاتسمح بتذويب الفواصل الطبقية والقبلية لهذا الفرد او ذاك امام القانون والقوة .ثالثا : لحلف الفضول دلالة اعمق عن كل ماذكر اذا اخذنا هذا الحلف على اساس انه النواة الذي اسس عليها الاسلام قيام اجتماعه الانساني هذا ، فهنا يتحول هذا الحلف ليس باعتباره ظاهرة اجتماعية عربية مكية ماقبل اسلامية فحسب ، بل هو نواة اجتماعية وفكرية للبناء الاسلامي الذي نبحث نحن اليوم عن بناه الاجتماعية الاصيلة التي ارسى عليها بنيانه ، لنكتشف فيما بعد : ان الاسلام بنى قواعده الاولية على بقايا البنى المدنية التي اسس لها حلف الفضول اجتماعيا ، وليشيد الرسول الاعظم محمد بن عبدالله ص فيما بعد بهذا الحلف الذي شارك فيه شخصيا ابّان شبابه وقبل رسالته الاسلامية ، والذي رأى فيه الحسين بن علي بن ابي طالب سيد شباب اهل الجنة ع ، عندما اختلف مع والي المدينة في زمنه الوليد بن عتبة بن أبي سفيان ، انه الحلف الذي لم يزل صالحا اسلاميا لانتصار المظلوم من الظالم والضعيف من القوي عندما قال له الحسين ع :(( أحلف بالله لتنصفني من حقي أو لأخذنّ سيفي ثم لأقومن في مسجد رسول الله صلى الله عليه واله وسلم ثم لأدعون بحلف الفضول ...!.))فكل هذا يطلعنا على ان لهذا الحلف مميزات ترتقي به لان يكون علامة فارقة وحقيقية بين مجتمعين كانا يعيشان جنب الى جنب في مجتمع مكة العربية ، مجتمع يؤمن بالمدينة وقانونها وبناها الاجتماعية القائم على العدل والمساواة والحقوق والواجبات ، ومجتمع هو قائم على العصبة والقوة ونظرة التفوق القبلي ، وفضول مصطلحات ظلم ومظلوم وظالم وعداله وقانون وباقي تراتبية المدن وحضارة القانون !.والغريب العجيب في معادلة تجاور هذين المجتمعين في مكة وداخل الاجتماع القرشي ، ان نفس هذين التكتلين البشريين هما الذين سوف يشكلان عاملي تصادم عندما يأتي الاسلام برسالته الاسلامية في مكة فيما بعد ، ليتكتل اصحاب الدعوة الى المدنية ليكونوا انصار الاسلام والرسالة الجديدة وبكل قوة ، ولبني عليهم الاسلام كل فكرته واحكامه وتصوراته وحركته ..... ، بينما تتكتل قوى القبلية والعصبة ضد هذه الرسالة الاسلامية وبكل قسوة ليروا ان مبادئ وقوانين واهداف هذه الرسالة الالهية الجديدة ليس هي فحسب بالتضارب مع المصالح القبلية القائمة بل وهي كذالك رسالة تكفر بكل البنى الاجتماعية القبلية التي كانت قائمة بمكة ومنها الكفر بتقديس الاباء ومعتقدات العصبة ومكامن القوة على حساب الحق والعدالة ايضا !.ان القارئ الكريم سيجد مصداق ما ذكرناه انفا عندما يرجع الى اسماء الافخاذ والقبائل التي كانت تشكل ضد حلف الفضول والمطيبين من بني هاشم وغيرهم ، وسيطلع على الاسماء التي لعبت دورا اساسيا بمناهضة الاطروحة الاسلامية في بواكير نهضتها التغيرية الاولى ، وهم ينطلقون من فكرة العصبة والقوة والبنى الاجتماعية والطبقية التي كانت ترفع كشعار ضد اطروحة الاسلام المحمدية !.أذن : كانت بنى الاسلام الاجتماعية تقوم شيئا فشيئا على قواعد الافكار المدنية التي تلمسنا ظواهرها الاجتماعية في بروز عناوين :(( العدالة والظلم والحقوق والواجب .....)) وباقي العناوين التي لاتنو ولاتتمكن من الحركة الا في واقع المدن وصخبها وقانونها ونظامها الاجتماعي ، وكان لحلف الفضول الفضل في ابراز هذه التصورات التي اوصلتنا الى اساسيات البنى الاجتماعية التي اقام عليها الاسلام بناءه ، ويبقى ان نرى رؤية الاسلام الفكرية والاجتماعية في قباله البنيوية الاجتماعية القبلية ، ومن اين هي آتية ؟.وكيف تكونت ؟.ولماذا هي باقية حتى هذه الساعة ؟.
https://telegram.me/buratha