محمد مكي ال عيسى||
مقدمة عامة
بعد أن مرّت على البشرية قرون من الزمن وحجة الله ع غائب فيهم كان من الطبيعي أن تنطفئ عندهم لغة التحاور مع الحجة ع في ظهوره أو أسلوب التعامل معه ، فالفترة الطويلة كفيلة بأن تكون سبباً لابتعاد الأجيال عن الاحتكاك المباشر بشخص معصوم يرتبط ارتباطاً مباشراً بالسماء ويستقي منها تسديده . .
نعم فلم تعد تتناقل الأجيال المواقف المباشرة لأجدادها مع الإمام الفلاني أو الإمام الفلاني وأصبحت تلك المواقف تاريخاً نقرأه في الروايات و ابتعدت كثيراً عن واقعنا
نحن نحتاج أدباً مميّزاً في التعامل مع شخص المعصوم . . وعمليّاً لم نمارس هذا الأدب
هو أدب خاص لا يُتعامل به مع كل أحد . . نعم ، هناك من يحسن الادب بحضرة العالم والمرجع بصفته نائباً للإمام المعصوم لكن الأمر يبقى مختلفاً بين المعصوم وغيره
وعقلاء البشريّة اليوم يقدّرون قيمة المعصوم المنقذ المخلّص بعد أن غاب عنهم ما يربو على الأحد عشر قرناً من الزمان والبشرية تتخبط بلا دليل هدى سماوي شاخص ظاهر ناطق بالحق ، فيفترض منهم اليوم أن يكونوا على أعلى مستوى من الدقّة في تعاملهم مع هدية السماء هذه بعد الفقد الطويل.
وخصوصاً أن هناك توجّه مقابل من التربية المنحرفة الّتي قدّمتها الحضارة الغربية والّتي شجعت على الابتذال والتفاهة وسوء الخلق واعتبرته أمراً طبيعيا من جهة وتشجيعها على عدم الحياء وقلة الاحترام والجرأة المفرطة معتبرة ذلك من مكملات الشخصية من جهة أخرى.
وبعد هذه المقدمة فإننا ومن خلال وقفات سنحاول أن نتعرّض لما يمكّننا الله منه من الآداب والّتي يجب مراعاتها أثناء التعامل مع شخص المعصوم راجين منه تعالى التسديد لإحصائها من خبايا آيات القرآن والروايات الشريفة ويبقى هو (ع) الّذي يعلّمنا ما غفلنا عنه وجهلناه من الأدب معه عند ظهوره.
التسليم بالاتباع
من الدوافع الفطرية الّتي أودعها الله في نفس الإنسان دافع الفضول وحب الاطلاع وهذا الدافع يستثار عندما يُفرَض على الإنسان تكليف معين ليقوم به كما أن هذا التكليف يثير في النفس الاعتراض ورغبتها في الجدل لأنها تريد معرفة الغاية من كل فعل تفعله.
وهذا الأمر أودعه سبحانه في نفس الإنسان لأنه عز اسمه لا يريد من العبد أن يكون جاهلا فيما يقدم عليه من الفعل بل لا بد من أن يكون ملمّاً بطبيعة فعله ولماذا يفعله ويقوم به ، كي يكون فعله هذا مستنداً إلى حكم العقل ولا يكون عبثياً جزافياً.
وحضور الإمام الحجة ع لا يقطع هذه الرغبة بمعرفة الغاية وما يترتب على الفعل ولا يلغي ما فطر عليه الإنسان في خلقته، وبالتالي قد يواجه المكلّف أوامر تصدر من إمام زمانه لا يدرك تبريرها حين صدورها فتثور عنده الرغبة بالاعتراض والجدل والتساؤل عن الغاية ، وبالتأكيد فإن الإمام الحجة ع يعلم ذلك من العبد وكذلك يريد من العبد أن يعي ماذا يفعل والغاية الباعثة على الفعل لكن ، قد لا يكون الظرف مناسباً لشرح الغاية والأسباب للمكلّف المعترض وهنا فإن من واجب المكلّف الانصياع المباشر ، وبما أن هذا الانصياع هو لمن يمثل الجانب الإلهي فإنّه وبالتأكيد سيكون عين النور والهداية وإن كان ظاهره يبدو انصياعاً أعمى ..
فعندما استفتى علي بن يقطين الإمام الكاظم عليه السلام في الوضوء وأمره الإمام بغسل الرجلين إلى الكعبين على خلاف ما يقول به أئمة أهل البيت ع امتثل بن يقطين بالسمع والطاعة وعدم المخالفة بل ولم يتساءل أو يمتعض أو يجادل بل روي عنه أنه قال (( مولاي أعلم بما قال وأنا ممتثل أمره )) وسلّم للأمر وامتثل وأطاع وفعل فحفظ بذلك دمه ونفسه حتى عاد الإمام ع وأمره بالمسح مرّة ثانية .
بل وأزيد من ذلك حينما أمر صادق أهل البيت ع هارون المكّي أن يدخل التنور وقد أسجر لتوّه فألقى هارون نعله ودخل التنور من غير تباطؤ ولا اعتراض و لا حتى سؤال لماذا.
حيث أن هؤلاء الصحب النجباء قد وصلوا إلى مستوى من الوعي بحقيقة إمام زمانهم من أنه صلوات الله عليه غير مضطر لتبرير أوامره لهم بل أن وظيفة الأصحاب الطاعة ، ووظيفة إمامهم الأمر.
عندما علم موسى ع ـ موسى المخلَص النبي الإمام ـ أن هناك من هو أعلم منه ببعض القضايا قصده وعرض عليه أن يكون له تابعاً ليحظى ببعض هذا العلم ، أمّا هذا العالم فقد اشترط على موسى ع أن يتبعه اتباعاً مطلقاً من غير سؤال أو اعتراض وإذا خالف موسى ع ذلك فإن الرفقة هذه تنتهي .
أمّا ذلك المطيع الواقف بخدمة موسى ع والذي يخيّل إلينا أنه أجير، خادم لموسى وعبّر عنه القرآن بأنه فتى موسى فقد كان نبياً ـ كما تذكر الروايات ـ يقف بخدمة نبي فيحمل المتاع والغداء ويأتمر بأمر مولاه وهو نبي . . . نبي يخدم نبياً
هارون النبي والوزير، الردء المصدّق والأخ الأكبر يسلّم لإمام زمانه لأخيه الأصغر موسى ويدعوه بكل أدب وانكسار مستمطراً عطفه يا ابن أم لا تأخذ بلحيتي ولا برأسي !!
ومن هذه الأمثلة يظهر واضحاً لنا أن اتباع المعصوم يغاير اتباع غيره فاتباع غير المعصوم قابل للنقاش والرد والاعتراض وحتى التغيير فاتباع المعصوم فهو انقياد تامٌ عن علم إجمالي بعصمة هذا المعصوم و موجبيتها للاتباع في كل ما يأمر به من غير علم تفصيلي بهذه الأوامر وهذا عقلاً مصحح لاتباعه المطلق التام من غير قيد أو شرط.
ومع أن القرآن الكريم قد ذمَّ الاتباع الظنّي من غير علم وذمَّ اتباع الآباء والأجداد لكنه في مواضع أخرى بيّن أن مذمّة الاتباع إنما تأتي بسبب جهل أو قصور المتّبَع وعد إمكانيته على هداية غيره، فقال { قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكَائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَفَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لَا يَهِدِّي إِلَّا أَنْ يُهْدَى فَمَا لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ }
ففي الآية بيان لملاك حسن الاتباع وقبحه وهو الهداية للحق { وَقَالَ الَّذِي آمَنَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشَادِ }
فالاتباع بحد ذاته غير مذموم فيما لو كان متعلق الاتباع من الموصلات للرشد والهداية وبالتأكيد فإن إمام الزمان المعصوم المسدد من السماء يكون الحق باتباعه اتباعاً مطلقاً لأنه هو الوحيد الذي يجلّي اسم الله الهادي بأبهى صور الهداية.