( بقلم : كمال ناجي )
بلا ريب أن عقد الاتفاقات بين أطراف سياسية لتجاوز إشكاليات و قضايا خطيرة تتعلق بالأمن و استقرار البلاد و وضع الحلول و المعالجات الناجعة أمر إيجابي و مرحب به في كل زمان و مكان . و لكن ما يلاحظ على الاتفاق الأخير بين وفد من الائتلاف و الصدريين و الذي وافقت عليه حكومة السيد المالكي انه خلا تماما من طرح المعالجات الموضوعية و الحقيقية التي من شانها قطع دابر الاحتقان و وضع حد لاضطراب الأمن في مناطق معينة من البلاد أو العاصمة على وجه التحديد و التي يجب أن تكون معالجات جذرية و نهائية بعد أن تحمل المواطنون الكثير من المعاناة و هم يمنون النفس بأن تنفذ الحكومة وعدها الذي قطعه رئيس الوزراء على نفسه و شعاره المعروف الذي يفيد بأن على المواطنين الصبر قليلا لأجل الاستمتاع بمرحلة طويلة من الأمن و الاستقرار . لقد كان المنتظر هو أن يتم الأمر للحكومة في مدينة الصدر على غرار ما تم لها في مدينة البصرة التي تتمتع بمساحة جغرافية أكبر من مدينة الصدر و بنفوذ واسع كان حتى وقت قريب للمليشيات و العصابات الخارجة عن القانون بل أن طبيعة واقع محافظة البصرة أكثر تعقيدا من مدينة الصدر .
لقد تجاوز الاتفاق الذي أعلن من أربع عشرة نقطة أمرين كانا الهدف الأساس كما صرح به رئيس الوزراء للعمليات العسكرية التي صبر المواطنون و تحملوا أذاها نتيجة اتخاذهم دروعا بشرية من قبل العصابات الإجرامية .. لتأتي النتيجة خلاف المتوقع و المأمول فليس سوى إخفاء المظاهر المسلحة و نزع العبوات الناسفة من الطرق و النقطة الأخيرة لا أدري أنضحك لأجلها أم نبكي !
إن ابرز ما نسجله هنا هو أن الاتفاق نفسه اعترف برعاية جهة سياسية للعصابات الخارجة عن القانون و منح هذا الاتفاق شرعية غير مقبولة لهم و مثّل تواصلا مملاّ مع اتفاقات سابقة كانت لا تثمر سوى عن تأجيل الصراع مع هذه العصابات إلى مكان آخر و زمان آخر . غير أن البعض من الأخوة قرأ الموضوع من جانب آخر وهو إن ما تم الاتفاق عليه يمثل نصرا للحكومة من جهة أنه يفسح المجال لدخول القوات الحكومية من الشرطة و الجيش و فرض سيطرتها على المدينة و ملاحقة العناصر المطلوبة قضائيا و القيام بحملة تفتيش بحثا عن الأسلحة الثقيلة و المتوسطة و مصادرتها . و هنا لا بد من إعطاء هذه القضية مزيدا من التحليل و التأمل فيها لأن ثمة ما يمكن بالفعل توقع أن ينسجم مع هذه القراءة في حالة حدوثه دون أن نلغي الاحتمال الآخر وهو احتمال ممكن أيضا .
إن دخول القوات إلى المدينة بحد ذاته لا يعني شيئا بالمرة فالكل يعلم أنها كانت تقوم بدوريات مستمرة في عمق مدينة الصدر قبل اندلاع المواجهات الأخيرة . إذن و لكي يكون الاتفاق نصرا للحكومة بالفعل لا بد و أن يكون الدخول و ممارسة الأجهزة الأمنية لعملها مختلفا بحيث يكون نفوذها هو النفوذ الأوحد دون مزاحمة من المليشيات . و قضية نفوذ السلطة الحكومية لا يتجلى بمظاهر روتينية من انتشار على الأرض و القيام بدوريات لا يتدخل الآخرون بعملها ، بل بمدى قدرتها على التحرك لضرب الأهداف المشبوهة و ملاحقة كل من تسول له نفسه فرض سطوته على الناس . فهل يمكن أن نتصور أن اعتقال رؤوس تلك العصابات و المليشيات سيكون جزءا من عمل الأجهزة الأمنية دون توقع حدوث مصادمات تعود بالمواجهات إلى نقطة البدء و ادعاء الصدريين بخرق الاتفاق ؟ على أن قضية التفتيش عن السلاح و نزعه يعني ضرورة تسليم هذه الأسلحة طوعا إلى الحكومة و لا فرق بين أن يأتي الشخص حاملا سلاحه و طالبا وصل يثبت عملية التسليم أو أن يترك أفراد الجيش ليدخلوا منزله و يصادروا سلاحه .. إلا أننا نصطدم هنا بحقيقة أن الاتفاق لا يشير كما أكد على ذلك الصدريون إلى قضية تسليم سلاح المليشيات .. إذن ما سيحدث هو واقع يتيح قراءة مزدوجة فمن الجانب الحكومي يمكن القول أن الأمر في المدينة يجري على غرار ما جرى في الكاظمية و الشعلة و أجزاء من البصرة و من جانب الصدريين فهم يملكون بنود الاتفاق لتسويق نصر مزيف إعلاميا مع حقيقة قدرتهم على إخفاء أسلحتهم في أية بالوعة أو حفرة أو حتى إخراجها من مدينة الصدر و خزنها في أماكن قريبة . نعم يمكن القول إن هذه الخطوة ستسهم لصالح الحكومة بالآتي :
أولا : منع إطلاق الصواريخ و الهاونات على مناطق بغداد الأخرى من عمق مدينة الصدر .
ثانيا : تقييد حركة بعض المجاميع الخاصة التي تطلق صواريخ متطورة و هي بطبيعتها كبيرة الحجم و يمكن مصادرتها و ستضطر القيادات الصدرية للسكون مرغمة لا مختارة . لا سيما و أن الأسلحة المفضلة للمليشيات و التي تعتبرها مصدر قوتها تتمثل في : الهاونات – الآر بي جي – العبوات الناسفة ..و سيجري تخزينها و إخفائها في أماكن مختلفة و سيصعب على الأجهزة الأمنية العثور عليها إلا صدفة أو بتعاون حقيقي من المواطنين وهو تعاون لا ننتظره إلا بعد أن يشعروا بغياب سطوة و نفوذ المليشيات بشكل كلي أو شبه كلي و الاتفاق في بعض بنوده لا يلبي ذلك .
ثالثا : القيام بحملة إعمار واسعة يمكن أن تكسب الحكومة من خلالها تأييدا شعبيا واسعا و هو كفيل بانهيار نفوذ المليشيا و سلبها ما كانت تخادع به الناس و تستغله للترويج لصالح شعاراتها الطنانة و التشنيع على الحومة في الوقت ذاته .
رابعا : بناء شبكة استخبارية منظمة و فاعلة و جمع كل المعلومات الصغيرة و الكبيرة عن قيادات المليشيات و أماكن سيطرتها و كيفية إدارتها للقتال مع القوات العراقية و المتعددة الجنسيات و غير ذلك من الأمور بحيث يمكن أن يكون الجانب الحكومي مسيطرا سيطرة تامة على هذا المستوى لتكون أية مواجهة قادمة مختلفة عما سبقها مما كانت تفتقد فيه القوات العسكرية للكثير من المعلومات عن العدو الذي يقاتلها في الأزقة الضيقة و أساليبه التي يتبعها في القتال .. هذه النقطة غاية في الأهمية و على الحكومة و الجهات المختصة المباشرة على الفور بتشكيل منظومة استخبار خاصة بمدينة الصدر و جمع كافة المعلومات التفصيلية عن العناصر المليشياوية و علاقاتها الداخلية و الخارجية و أسماء ابرز القادة و طريقة تفكيرهم و ما هي أنجع الوسائل لتصفيتهم و ملاحقتهم في حال تسببوا بإلحاق الأذى بالمواطنين أو عرقلوا عمل الأجهزة الأمنية .
خامسا : استقدام قوات عسكرية غير تلك التي كانت متواجدة من قبل ، فعلى الحكومة أن تعلم يقينا بأن تسعا و تسعين بالمائة من الشرطة و ثمانين بالمائة من الجيش الذي كان في مدينة الصدر يتلقى أوامره من مكاتب الصدر لا من قياداته العليا . و إن الشرطة على وجه التحديد كانت تعمل كجزء لا يتجزأ من المليشيات و لا يفرقها سوى الزي الرسمي الذي ترتديه . إن من الواجب الإتيان بعناصر كفؤة و مستقلة في ولائها لفرض هيبة الدولة و القانون في المدينة و لكي يتسنى لنا القول إن الاتفاق هو بالفعل يعد نصرا للحكومة و بخلاف ذلك فلا بد من الإقرار بأنها قد خسرت المعركة و لا يملك أحد التغطية على هذه الحقيقة لأن نفوذ المليشيات يتجلى بنفوذ القوة الموالية لها من الشرطة و بعض عناصر الجيش .
سادسا : ينص الاتفاق على إلقاء القبض على العناصر المطلوبة بموجب مذكرات اعتقال من القضاء العراقي و برغم أن بعض نواب التيار الصدري أعلنوا عن صعوبة تسليم بعض المطلوبين وهو ما يمثل تراجعا مبكرا للغاية عن أهم بنود الاتفاق فإن هذه النقطة في حال تحقيقها ستمثل جزءا من النصر الذي يمكن للحكومة نسبته إليها .
إن القول بكون الاتفاق يعد نصرا للحكومة فيما أعتقد و حسب رأيي الشخصي سابق لأوانه و لا بد من انتظار النتائج التي ستتمخض عنها الأيام و الأسابيع القليلة القادمة لنقف على كامل ملامح المشهد الأمني في مدينة الصدر لا سيما أن الصدريين لم يظهروا من قبل أية قدرة على الالتزام بشروط أي اتفاق حصل معهم و سرعان ما يجدون المبررات و يختلقون الحجج لينسفوه من جذوره و يلقون بتبعات ذلك على الحكومة .
https://telegram.me/buratha