( بقلم : فالح غزوان الحمد )
كانت و لا زالت الأقلام و المنابر التي تسكنها عقد مختلفة توغل في محاولاتها لاستثمار أية حالة أو ظاهرة طارئة بغية التأكيد على جملة قضايا ابتدعتها مخيلة البعض و تحاول مخيلات البعض الآخر تأكيدها و جعلها مسلمات ثابتة رغم افتقادها لكل ما هو مقنع للعقل و المنطق . و ليس مثل هذا السلوك و تلك المواقف بجديدة على أناس من هذا النوع الذين يتبارون في ميدان كيل التهم و التلفيقات لأغراض سياسية و طائفية رخيصة .
من ذلك ما يقوم به نفر من الكتّاب وجدوا في المليشيات و العصابات الإجرامية و أفعالها الدنيئة فرصة للنيل و الطعن بتاريخ أغلبية الشعب العراقي و سلب هوية انتمائه الوطني و أصالته العراقية منذ قرون . لقد جعل هؤلاء من تلك العصابات الشاذة نموذجا مطلقا يجري تعميم أفعاله و همجيته على عموم سكان المناطق التي تنشط فيها هذه العصابات الخارجة عن القانون و منها مدينة الصدر . و قد نشطت بعض المواقع المشبوهة في ترويج كتابات و مقالات ليست تهدف إلى أكثر من تشويه صورة المواطنين الساكنين في مدينة الصدر و قذفهم بشتى الاتهامات و إلصاقها بهم ظلما و عدوانا . و كأن المليشيات و الزمر المجرمة هي تعبير حقيقي عن هؤلاء السكان الذين في غالبيتهم من الفقراء و المعوزين و الذين عانوا من ظلم و اضطهاد الحكومات الدكتاتورية و انتهت إلى تسلط شذاذ و شراذم لا يخلو منهم أي مجتمع بشري أيا كان و في أي مكان وُجِد . لهذا فلا نستغرب أن تحاول مخلفات و نفايات النظام المقبور التواصل في شوط الاضطهاد و التنكيل بهم و تشويه صفحات جهادية مشرقة لهذه المدينة الصابرة و إن كان ذلك يتم الآن بأساليب مختلفة و أدوات غير تلك التي توسلها النظام الدكتاتوري .
تأتي مقالات تكاثرت منذ مدة و يتم نشرها في إحدى المواقع البعثية لتنعت أهالي المدينة بالشروكية و تبذل الجهد في تصويرهم محضا من الهمج الرعاع و الذين يجب إعادتهم من حيث جاءوا . و هي تحتشد على سيل لا ينتهي من التهم الباطلة و التلفيقات المخزية لأناس يدعون كونهم كتابا . و من بين ما يكال من تلك التهم هو أنهم أي أهالي المدينة أناس مطبوعون على الهمجية و الفوضى و التمرد على القانون و يرى البعض إن ذلك قد تجلى بعد سقوط النظام الصدامي بموجة السلب و النهب التي يدعي أن من قام بها هم سكان مدينة الصدر . كذلك يصف النسيج الاجتماعي في مناطق المدينة بأنه نسيج متفكك و تتنازع فيه الناس تنازع حيوانات الغابة للجيف فيما بينها و بالطبع لا يفوت هؤلاء الحمقى و الجهلة القول إن ذلك بدء منذ أن جاء عبد الكريم قاسم بهم من مناطق الوسط و الجنوب و إن البغاددة الأصليين لا يفعلون أفعالهم و لا يميلون إلى ما يميل إليه هؤلاء من سكنة الأحياء الفقيرة في الصدر و ما جاورها .
نجزم يقينا إن محرك كل هذا هو تواجد المليشيات و العصابات الخارجة عن القانون و التي عاثت فسادا في بغداد و ما حولها فوجد بعض الطائفيين و ذووا النزعات المريضة الفرصة التي كانوا ينتظرونها من التشنيع على أغلبية الشعب العراقي و الطعن به و كيل التهم الغريبة له . لقد فات هؤلاء جملة من الحقائق تضرب بما قالوه عرض الحائط و معها لا يعدو كلامهم أكثر من سفسطة خالية من أي مضمون أو معنى يستحق النظر فيه . فبالنسبة للادعاء أن الراحل عبد الكريم قاسم هو من أتى بأفواج من البشر إلى بغداد قول يلقى كثيرا دون تمحيص فالحقيقة إن عبد الكريم قاسم كان بناؤه لمدينة الثورة لأجل أن تأوي الفقراء لم يكن أكثر من ردة فعل لواقع هجرة العديد من الأسر من الريف العراقي في الوسط و الجنوب إلى العاصمة و هو أمر سبق حدوثه مجيء القاسم بأكثر من خمسة عشر عاما . ونحن لو فرضنا أن بداية التواجد لأهل الوسط و الجنوب كان في عهد عبد الكريم جدلا فإن ذلك لن يؤثر على حقيقة إن الهمجية التي يتحدث عنها هؤلاء ليس مصدرها الجنوبيين أو كما يسمون الشروكـ وحدهم . إن التمثيل بقضية السلب و النهب و إقامتها كدليل هو محض ضحك على ذقون السذج ، فعبر التاريخ العراقي لا بد أن نعترف بأن العراقيين كانوا ميالين بشكل عجيب إلى عمليات النهب و السلب بعد كل عملية سقوط أو تغيير قهري للنظام الحاكم و يكفي مراجعة كتاب الدكتور علي الوردي " لمحات اجتماعية من تاريخ العراق " للوقوف على هذه الظاهرة التي بحاجة لدراسات اجتماعية و سيكولوجية عدة ليتسنى معرفة أسبابها و إن كانت بعض تلك الأسباب مما يسهل تصوره فالفقر و الحرمان المستمر و مصادرة الحقوق على يد السلطات الحاكمة دفع الناس للثار من حرمانهم و من السلطات معا عن طريق نهب أي شيء ولو كان تافها . و على أية حال فالقضية لا تتعلق بجزء من الشعب العراقي دون غيره فعمليات النهب و السرقة للمال و الممتلكات العامة حدث في مدن الشمال و الغرب كما حصل في الوسط و الجنوب تماما دون فرق يذكر على الإطلاق . إن أكثر النقاط مدعاة للاستهزاء بالنفر المغرض من أولئك الكتاب هو حين يتم وصف النسيج الاجتماعي في مدينة الصدر بكونه رخوا بل و متفككا فيما هو متماسك في أماكن بغداد الأصلية ، هذا مع أن العلاقات الاجتماعية و الأسرية في مدينة الصدر تعبر عن حقيقة الترابط و التواشج القوي و أواصر متينة بين أفرادها و سكانها الذين يجمعهم بساط الفقر و يتقاسمون رغيف الخبر بينهم وهم يئنون تحت وطأة قمع الأنظمة الحاكمة و انتهاء بحكم المليشيات على أهلها . و إذا كان بعض المعتوهين الذين لا يحترمون عقولهم و لا عقول الناس يحاولون عكس و قلب الصورة فإن هذا العمل الدعائي المقيت لن يؤثر في الحقيقة التي ستبقى صلبة و ثابتة و عصية على الاندثار و التزوير و القلب .
نعم ، قدّمت المليشيات المسلحة و العصابات الإجرامية خدمة جليلة بل و تاريخية لبعض الأطراف كي تنال من أهلنا في مدينة الصدر و تُمكّن هؤلاء من نسج خيالاتهم و دسّ سمومهم هنا و هناك و لكن ليعلم هؤلاء أن وجود هذه الشراذم لن يدوم و لن يطول و سرعان ما سيشعرون بخيبة الأمل حين يتم القضاء على هذه الحثالات الشاذة التي تمثل نفسها و لا تمثل لا من قريب و لا من بعيد أهل مدينة الصدر النجباء و الصابرين على البوائق و المصاعب و سيأتي اليوم الذي تنزاح فيه غمة المليشيات و تتدحرج كراسي الشقاوات التي نصبت تحت شعارات دينية و مستغلة مشاعر الناس الطيبين الذين يعمل عشرات الآلاف منهم في وظائف محترمة فمنهم مهندسون و مدرسون و أطباء و في شتى الاختصاصات المتنوعة و يبزغ وجه المدينة المظلومة ساطعا و باهرا كما كانت عليه بعد أن يستحم جسدها في نور التحرير الأتي لا محال من دنس و سطوة المليشيات و العصابات الباغية عليها و على أهلها و تاريخها .
https://telegram.me/buratha