( بقلم : د. نضير الخزرجي )
أخذ مثلث برمودا شهرته منذ منتصف القرن العشرين، وهو مثلث مائي يقع في المحيط الأطلسي يقولون انه يعمل عمل المادة السوداء "مقبرة المجرات" غير المرئية في الكون، فهذه تبتلع المجرات وذلك يبتلع السفن، ومع هذا لم ترتعش أوصالنا لغرق سفينة لأننا لم نر ذلك أصلا، ولم نتعظ من غياب المجرات لأننا لم نرها بالعين المجردة، وإن أحسّت بها الآلات.
وفي العراق، حيث كثرت المقابر الجماعية في عهد نظام صدام، وواصل بقاياه في خلق المزيد، فان مثلث الموت في جنوب بغداد، أو المثلثات حول أطراف بغداد وديالى والموصل، كانت هي صفة العهد الجديد، وهي تبتلع بني البشر زرافات ووحدانا ناظرة في الإنسان نوعية مذهبه وحزبه، فمن خالفها قتلوه ودفنوه في مقابر عامة وسرية أو على طريقة "ريّة وسكينة" ومن وافقها ساوموه على الولاء أو تركوه لشأنه وعين الرقيب تحوطه من كل جانب، وكانت "المقاومة الشريفة" هو شعار هذه المثلثات، حتى أخمد الله فتنتها بحنكة السلطة وحكمة المرجعية وصبر أهل العراق، وبان عفتها كعفة صابرين الجنابي!، ولا نعدم اليوم وجود مثلثات وقاعدات وقطاعات، بعضها كأخوات هارون تتقاطع مع السلطة العراقية بمجالسها الرئاسية الثلاثة.
وبالقرب من شهرة المثلثات سابقا والقطاعات لاحقا، هي شهرة "المنطقة الخضراء"، التي قد تبدو في ذهنية من لم يرها أنها بقعة عسكرية قابعة وسط بغداد، ولذلك أعتقد أن الكثير ممن يرمي المنطقة بالقذائف جذلان فرحا، لا يعرف حجمها ولا يعرف نوعية سكانها، وهو لاشك متأثر بوسائل الإعلام التي تظهر للناس وكأن المنطقة الخضراء عبارة عن محمية عسكرية وعساكر ومدرعات ومجنزرات وطائرات مقاتلة وسمتية، وهي معسكر للجند أولاً وآخراً، فأينما سقطت القذيفة أو الصاروخ أو الهاون سقطت على هامة جندي أميركي أو عجلة أميركية أو منشأة أميركية، كأنما يرمي شبكة في نهر لا تخطئ صيدها!
بيد أن الواقع أوسع من ذلك، فقد رأيت خلال إقامتي القصيرة في فندق الرشيد داخل المنطقة الخضراء في منتصف آذار مارس 2008م، أسراً وعوائل عراقية وأطفالا وطلبة وطالبات ومنشآت طبية، وموظفين وموظفات وعمالا وعاملات، أي أن المنطقة الخضراء قطعة من النسيج الاجتماعي العراقي مع الفارق في الخدمات، فما يميزها أنها محاطة بسياج اسمنتي لا يفصلها عن الشوارع العامة إلا هو، مثلما هي منطقة السيدية حيث لا يفصلها عن الشارع العام إلا السياج المقام لحفظ الأمن، فصارت المنطقة الخضراء ومنطقة السيدية أو غيرها سيان من حيث السياج الكونكريتي، فالذين يعملون أو يسكنون في المنطقة الخضراء لا يعيشون في "قلعة ألّموت" الصَّبّاحية ولم يُبَّشروا بجنة ونعيم وحور عين وولدان مخلدين، فمعظمهم من أبناء العراق، فهي منطقة تضم كل النسيج العراقي العربي والكردي والتركماني.
وهذه حقيقة يدركها أعضاء مجلس النواب العراقي الذين يترددون على هذه المنطقة في كل جلسة أو مؤتمر، ولا يمكن التنكر لها أو المغالطة فيها، وبخاصة الأعضاء الذين يمثلون الواجهات السياسية للجماعات التي تقصف المنطقة الخضراء بين الفينة والأخرى، وإذا أمكن خلق العذر لمن لا يعرف جغرافية المنطقة الخضراء وسكانها وظنها أنها مقاطعة من مدينة واشنطن أو نيويورك، وأن أي صاروخ سيسقط لا محالة على العاصمة الأميركية السياسية أو الاقتصادية، فما عذر من يعرف أن فيها منازل سكنية وفنادق ومطاعم وحياة اجتماعية يومية، وبحضوره شبه الأسبوعي يشكل جزءاً من هذا النسيج الإجتماعي؟!
وإذا كان مثلث برمودا لغزا من الألغاز، فالمنطقة الخضراء ليست كذلك، على أنها أخذت إسما لا يتوافق وحقيقتها، فيصح أن تسمى المنطقة الحمراء لوقوعها تحت مرمى نيران القذائف العمياء، في وقت يسارع جلّ أهلها الخطى والزمن وكل الألوان المعتمة من أجل إزالة مخلفات النظام البائد ورفع بقايا الحاكم العسكري الجنرال جاي غارنر وتصحيح تبعات الحاكم المدني بول بريمر وترميم أخطاء الحكومات الوطنية المتعاقبة.
أعتقد أن الذي يقصف المنطقة الخضراء، يضر بوطنه وشعبه مرتين، مرة حينما يضرب منشآت حكومية وأخرى أهلية، وثانية حينما يعطي المبرر للقوة الجوية الاميركية للرد على النيران، والكل يعلم أن النيران صادرة من الأزقة الضيقة أو من أسطح البيوت المكتظة، وهي ليست عصية على التكنولوجيا الأميركية التي تراقب تحركات الأفراد ومصادر النيران. وفي كل الأحوال، فإن الخاسر الأول والأخير في هذه المعركة غير المتكافئة عدة وعدداً هو الإنسان العراقي، الذي لا يحسن البعض صيانة دمائه الطاهرة.
https://telegram.me/buratha