( بقلم : كريم النوري )
ثمة شبهة يطلقها بعض الباحثين والمفكرين وهي ان الافتاء المرجعي الديني قد يتقاطع من الولاء الوطني وتأتي هذه الشبهات والمغالطات بناءً على افتراضات مطروحة وترتب نتائج عليها دون النظر في صحة هذه الافتراضات او دقتها.
فملخص هذه الشبهة او المغالطة هو ان المرجع لو أفتى بفتوى تتعارض مع التوجه الوطني فان التزام المكلفين بها يعني تقاطعهم مع الانتماء الوطني .. هكذا يطرح هذا الافتراض وهكذا يكون النتائج المترتبة عليه وهذا الإفتراض بتصور ان هناك تقاطعاً بين الافتاء المرجعي مع الولاء الوطني يحتاج الى توضيحات وتقاشات نجملها بالنقاط التالية:
1- كيف نفترض ان هناك تقاطع بين الافتاء المرجعي والولاء الوطني ثم نرتب نتائج على هذا الافتراض وهذا اول الكلام لاننا نعتقد ان مثل هكذا افتراض يحمل تناقضاته من الداخل
2- مساحة الفتوى تتحرك في آفاق أبعد من الانتماءات الوطنية والقطرية الضيقة فمساحات الدين أوسع من نطاق الاوطان فهي مساحة عالمية تتحدد تكاليف الافراد من كل الاوطان فلا يمكن ان تتعارض الفتاوى مع القوانين والانظمة الوطنية ولو تعارضت ببعض التفاصيل فلا يعني بالضرورة ان تعارض اسس وثوابت وطنية معتبرة.
3- قبل ان نخوض في هذه التقاطعات المفترضة بين الافتاء الفقهي والانتماء الوطني لابد ان نعرف معايير الوطنية وماهو المقصود بالوطنية والوطن وهل تسلط جماعة على زمام الامور في الوطن على ظهور دبابات في انقلابات يقودها الجنرالات هم من يحدد وطنية الاخرين وهل معارضة الحكام الجائرين والطغاة هو خروجاً عن الوطنية؟
4- الفقيه الذي يستنبط الاحكام الشرعية من ادلتها يفرغ الوسع ويبذل اقصى جهده للوصول الى الحكم عبر توظيف كل قدراته وامكاناته في الاحاطة بالقواعد الفقهية والكليات الاصولية والمقدمات العلمية وهو الذي يدرك المصالح والمفاسد التي تكون احدى ملاكات الحكم فنستبعد تصور ان يكون هناك تقاطعاً بين المنهج المرجعي والانتماء الوطني ولو حصول مثل هذه التقاطعات فرضاً فلسوف لن تكون على مستوى الثوابت والاسس التي تخل بهذا الانتماء والولاء للوطن.
5- ما نلاحظه خلال قراءة سريعة لكل فتاوى المراجع والفقهاء يمنحنا نظرة متبصرة حول حصول العكس بل نجد تعميق الولاء الوطني من خلال الفتاوى التي تراعي مصالح الوطن والمواطنين ولا تؤشر على ما يؤكد هذه الشبهات فان الفقيه يعتقد ان حفظ النظام العام في البلاد من اولوياته وظروف الوطن وخصوصياته ولو صدرت فتاوى توحي بهذه التقاطعات فهي تقاطعات بين الحاكم ومنهجه المنحرف وبين الفتاوي ومنهجه لا يمثل الابعاد والانتماءات الوطنية.
6- سلوك الحاكم ومناهجه وقوانينه قد تتقاطع مع الزامات الشريعة ومفاهيم الاسلام وهذا السلوك لا يعني التقاطع معه تقاطعاً مع الولاء الوطني وقد تنشأ هذه المغالطات من هذه النقطة واعتبار الحاكم هو مظهر من مظاهر الوطنية والخلاف معه يقدح بالانتماء الوطني.
7- المعروف من السياق الافتائي لدى الفقهاء ان حيثيات الوطن ومصالح المواطنين العليا مأخوذة بنظر الاعتبار في كل افتاء وقد تكون ظروف كل بلد تختلف عن ظروف الاخر ولذا كانت هناك احكام تتعلق بالموضوع الخارجي او القضية الخارجية كما يقال في اصول الفقيه بمعنى ان الفتوى محصورة في وضع معين ولا تشمل جميع المكلفين.ليس من الصحيح طرح مثل هذا الافتراض ثم الاجابة عليه بمقدمات غير صحيحة وباسلوب غير علمي ثم نزعم بانه قد يتقاطع الموقف المرجعي مع الولاء الوطني بمجرد طرح مثل هذا الافتراض وهي شبهة لا تتوجه الى المذهب الشيعي بل الى جميع المذاهب والاديان.
الهموم المذهبية والهموم الاسلامية العليا
قد تثار شبهة اخرى بنفس السياق السابق وهي ان الهموم المذهبية أكثر من الهموم الرسالية الاسلامية وقد تكون لهذه الظاهرة مصاديق واقعية لا يمكن المكابرة فيها او غض النظر عنها.يجيب شهيد المحراب(قدس) على هذه الشبهة برؤية معمقة وشاملة ويشير الى نقاط مهمة في اجابته الواعية في حوار أجرته معه مجلة الثقلين نجملها ما يلي مع تغيير طفيف وهي:
1- الموقف من دخول الإنجليز إلى العراق، فالعراق هو البلد الوحيد الذي اجتمع فيه المسلمون جميعاً لمواجهة الغزو البريطاني وقاد هذه المواجهة العلماء في العراق. فاصدر علماء النجف فتوى الجهاد ضد الإنجليز، ووقفوا إلى جانب الدولة العثمانية لصد هذا الغزو. على أن الدولة العثمانية كانت تتبنى مواقف مذهبية متشددة قمعية تجاه غير أتباع المذهب الحنفي، من أجل فرض هذا المذهب على كل المسلمين بالرغم من ذلك وقف علماء النجف هذا الموقف الوحدوي.
2- في ثورة العشرين، نجد أن الشعار المطروح هو إخراج البريطانيين من العراق، دون التفكير في البديل الحاكم، هل سيكون سنيا أم شيعيا. بل إن علماء النجف ذهبوا وجاءوا بحاكم سني من الحجاز.. علماء النجف وشيعة العراق هم الذين قاتلوا، وهم الذين قدموا التضحيات، وهم أصحاب القوة.. ولكن كان همهم الأول الإسلام، ولم يكن لهم هم طائفي مذهبي ولذلك اختاروا حاكما سنيا على شرط أن يحكم بالإسلام، وحينما نقض هذا الحاكم مبادئ الإسلام نهضوا بوجهه بدافع إسلامي أيضاً.
3- وفي الحرب العالمية الثانية كان للمرجعية موقف معروف في مساندتها للحركة الوطنية الرامية لتحرير العراق من الهيمنة البريطانية، فقد وقف السيد أبو الحسن الأصفهاني إلى جانب الثوار من أجل الإطاحة بالسلطة العميلة للبريطانيين.
4- موقف علماء النجف من حركة الإلحاد في العراق معروفة، فقد وقفوا بوجه التيار الشيوعي واليساري الذي حاول أن يهيمن على مقدرات العراق وعلماء النجف قدموا في سبيل ذلك تضحيات جسيمة، رغم أن الظروف السياسية كانت تفرض أن لا يقفوا هذا الموقف، بل يحصلوا على مكاسب في العهد الجمهوري بعد عهود من الاضطهاد الطائفي فالعهد الجمهوري يمثل انفراجا للوضع الطائفي في البلد، وأعطى فرصة للشيعة كي يكونوا في جهاز الحكم وفي الأوساط العسكرية والاقتصادية لكن علماء النجف وقفوا ضد نظام عبد الكريم قاسم المساند لتيار الإلحاد، بل وقفوا ضد هذه الحالة من الانفراج، ليحققوا مكسب وحدة المسلمين في مواجهة تيار الإلحاد الوافد.
5- موقف علماء النجف من قضية أكراد العراق وهم من أهل السنة واضح، فقد أصدر العلماء فتوى تحريم سفك دماء الأكراد، وتحريم أي عدوان على أعراضهم بينما وقف علماء السلطة ضد الأكراد. علماء الشيعة وقفوا إلى جانب صيانة دم الأكراد وأعراضهم، بينما وقف علماء السلطة إلى جانب العمليات القمعية ضد الأكراد.
6- موقف علماء النجف من قضية فلسطين.فقد واصلوا هذا الموقف في كل مراحل القضية، وأفتوا بجواز إنفاق الأموال والحقوق الشرعية لمناصرة العمل الفدائي ضد الصهاينة. ولا يزال هذا الموقف المبدئي من هذه القضية ومناصرتها قائما حتّى اليوم.
مواقف مراجع الدين الشيعة في الوضع العراقي الراهن اثبت الوطنية العالية والاحساس بالمسؤولية الكبرى فلم ينجروا الى مخططات الاخرين بل عكسوا الهم الوطني الاكبر وغض النظر عما لحق باتباعهم لاسباب مذهبية وطائفية وجميع فتاوى وتوصيات المرجعية الدينية في العراق كانت تنصب على البعد الوطني وحفظ النظام العام والمصالح الوطنية العليا وحث الناس بالمشاركة الفاعلة في الانتخابات باعتبارها الالية الوحيدة لحل النزاعات والصراعات على السلطة.
https://telegram.me/buratha