( بقلم : كريم النوري )
الفقيه السياسي يتسم بخصائص قد لا تتوفر عادة في غيره من الفقهاء الذين يحصرون دورهم على الدور العبادي وحده. وما يلاقيه الفقيه في عملية الاستتباط للاحكام ذات المنحى السياسي من مشقة فائقة وصعوبة بالغة يختلف كثيراً عمن يمارسه في بذل جهده في استنباط الاحكام العبادية وذلك للاسباب التالية:
1- ان الاحكام والمسائل العبادية تكون عادة من الثوابت التي يستفيد منها الفقهاء من نظرائهم واسلافهم الذين بذلوا الوسع وصولاً لهذه الاحكام بينما في المسائل السياسية فيجد الفقيه صعوبة بالغة وجهدا بالغاً في عملية استنباط هذه المسائل الخاضعة للتغيير الدائم والسريع فان المتغيرات السياسية والنظرة النسبية للواقع السياسي تختلف عن الاحكام الثابتة كالصوم والصلاة والحج والزكاة واذا حصل ثمة تغير فيكون في بعض التفاصيل وليس في الكليات كما لو تعددت موارد الاستطاعة في الحج في الواقع المعاصر او تغيرت اتجاهات القبلة كمن يريد الصلاة في الفضاء وغيرها من المتغيرات التي لا تلامس الاصل بل تعالج الجزيئات والتفاصيل.
2- لا يبذل الفقيه في استنباط المسائل العبادية عناية فائقة لتواترها في كتب الفقهاء القدامى وقد تأتي في الغالب جاهزة بينما القضايا السياسية فهي مسائل واقعية ومستحدثة لم يألفها الاخرون من الفقهاء ويعتمد ايجاد الموقف الفقهي والوظيفة العملية على الالمام بالواقع السياسي والظروف المحيطة وتشخيص الاولويات والمعرفة الاجمالية والالمام العام بالواقع المعاصر الذي له مدخلية في استنباط الحكم الشرعي.
3- ادلة المسالة العبادية المراد استنباطها متوفرة في مصادر التشريع كالكتاب الكريم والسنة المطهرة والاجماع بالاضافة الى سيرة المتشرعة بينما المسائل السياسية فهي تعتمد عادة على قواعد عقلية ومساحات ميدانية تتطلبها منطقة الفراغ (وهي مساحة شرعية يملأها الفقيه) وكذلك تعتمد بالدرجة الاساس على ادراك الواقع السياسي وتشخيص المفاسد والمصالح واعمال مبحث التزاحم او فقه الاولويات في استنباط المسائل السياسية كشرعية المشاركة في الانتخابات او شرعية الدستور او رأي المواطنين في التصويت وصناديق الانتخابات.
4- تعلق المسائل السياسية بالحكم والسلطة وادارة شؤون البلاد والعباد يجعل الفقيه في تحد كبير امام الحكام والسلاطين بخلاف القضايا العبادية التي لا يؤدي استنباطها الى استفزاز او اخافة الحاكمين بل هم يتظاهرون باحترام القضايا العبادية المتعقلة بالطقوس واداء العبادات كالحج والصلاة فهي لا ترعبهم كثيراً ولا تعد تدخلاً في شؤونهم كما هي المسائل السياسية التي تجعل الفقيه في مواجهة مستمرة مع حكام الجور.
5- الاضرار المترتبة على الاحكام السياسية هي اكبر واخطر من غيرها من المسائل العبادية التي تكون عادة بين العبد وربه بالاضافة الى المعاملات كالعقود والتجارة والحدود والقصاص هي مسائل حياتية لا تترتب عليها مخاطر كبيرة وجدية بينما المسائل السياسية فهي تتعلق بشؤون الناس وعلاقتهم مع الحكومات وقد يترتب عليها في الغالب اخطار محددة وضريبة باهظة. ولذا كان شهيد المحراب(قدس) يؤكد باستمرار بان العمل السياسي قد يؤدي الى مزالق ومآزق لو لم يتقن استخدامه او يحسن اداؤه.
والعمل السياسي وخصوصاً في ظروف العراق سابقاً ولاحقاً لو لم يعتمد على رؤية فقهية اشرافية تحدد الاولويات وتشخص المصالح العامة لادى الى نتائج كارثية تضر اكثر مما تنفع بل لا تنفع مطلقاً. ونستطيع الجزم بانه طيلة المواجهة العنيدة والصعبة مع النظام الاجرامي الصدامي الذي لا يتردد في ارتكاب أي كارثة في مواجه خصومه لم يسجل على إداء المعارضة العراقية في السابق اية اخطاء او خروقات وبالتحديد أداء فيلق بدر بإعتباره الجناح العسكري للمعارضة العراقية سابقاً قبل تحويله الى منظمة سياسية منزوعة السلاح.
قد تتطلب المواجهة مع نظام كنظام صدام لا يقفه الا لغة القتل والابادة ايجاد آليات انتقائبة واستثنائية لمجاراة ومواكبة التحديات وقد تؤدي هذه المفارقة بين نظام اجرامي لا يهمه سوى البقاء ولو على برك الدماء واشلاء الابرياء ويتمترس عادة بين الناس وبين قوة معارضة تلتزم باوامر شرعية تحدد مسارها وتوجه تكليفها بالطريقة التي تحفاظ على اخلاقية المواجهة.
وشهيد المحراب(قدس) كان لا يفكر بالمكاسب السياسية الطارئة التي قد تؤدي الى الحاق الاذى بالناس بل كان يواجه كل مشروع او مقترح عسكري او خطة هجومية كبرى برؤية فكرية اسلامية ويضع كل الاحتمالات والتوقعات ويستشرف المواقف المترتبة على ذلك ويصغي الى اهل الخبرة والتخصص العسكري بتقدير الموقف ورسم كل التوقعات وما يمكن ان يتمخض على العمل العسكري من هتك حرمات او كوارث خصوصاً ان طبيعة المواجهة مع نظام بوليسي لا يحترم اية مواثيق اخلاقية او دولية او انسانية. وليس سرّ ان نكشف حقيقة ما كان يجري في صفوف المعارضة العراقية المسلحة من مواقف لابد ان يطلع عليها شعبنا لكي يعرف الذين كانوا يتحركون لانقاذه ويفكرون بمصالحه وسلامته.
وفي هذا السياق قدم احد القادة الميدانيين مقترحاً عسكرياً لشهيد المحراب(قدس) يتضمن هذا الاقتراح تحرير محافظة العمارة من انياب البعث في عام 1999 في أربعينية السيد محمد الصدر ودعم هذا القائد الميداني خطته بمعلومات موثقة عن استعداد الوية من الجيش العراق للوقوف مع المعارضة وضباط كبار التقاهم اكدوا تقديمهم المعلومات والدعم العسكري لقوات بدر فرحب شهيد المحراب(قدس) بهذا المقترح واعلن عن استعداده لتغطية كل ما يتطلبه هذا العمل العسكري الكبير ولكنه (قدس سره) سئل هذا القائد الميداني عن تقديرات الموقف وردود فعل النظام المعروف ببطشه وفتكه وعن الاستعدادات لحماية اهالي العمارة من ردود فعل النظام الصدامي من قصف ومدفعية واستخدام كل ما تحمله ترسانة النظام السابق فأطرق القائد الميداني رأسه الى الارض ولم يجد جواباً مقنعاً سوى انه اجاب بالنفي وليس لديه اية استعدادات للرد على النظام وحماية المواطنين في العمارة من ردود فعل النظام الوحشية.
فأشار شهيد المحراب(قدس) الى القائد الميداني الى انه لو انتفض اهالي العمارة فعليكم الوقوف معهم بقوة ولكن ان تطالبوهم بالانتفاضة ثم تنسحبون او تختفون وتتعرض المحافظة واهلها لضربات النظام الاجرامية والوحشية فان هذا العمل له مردودات سلبية ستشوه سمعة المجاهدين امام اهلنا في محافظة العمارة الصابرة.
القائد الاستثنائي في الزمن الصعب يدرك المواقف ويستشرف كل ما من شأنه ان يؤثر على اداء ومسيرة حركته فليس النصر المؤقت والربح العسكري الطارىء عبر تحرير محافظة كبيرة كمحافظة ميسان هو الهدف الاساسي بل حماية الناس هو هدف اسمى ولذا يتخلى عن هذه المكاسب السياسية والعسكرية من اجل المواطنين الابرياء.القائد الفذ ليس الذي يقود انصاره وجماهيره الى محرقة المغامرات العسكرية الطائشة غير المتكافئة بل الذي يفكر كيف يحقق المكاسب العليا العسكرية والسياسية والمعنوية فان سمعة الحركة السياسية او العسكرية وتكريس اهتمام واحترام الجماهير لها هو هدف اسمى لانه اُنشئت أساساً من اجل الناس وحمايتهم وليس لجعلهم وقوداً لمكاسب وقتية طارئة.
هذه المواقف وغيرها مما سنشير اليها في الحلقات القادمة تكشف البعد القيادي والعقل الاجتهادي لشهيد المحراب(قدس) فما أحوجنا اليه في زمن تداخلت فيه الخنادق واحتجبت الرؤية وتعالت المزايدات والادعاءات.
https://telegram.me/buratha