( بقلم : هادي والي )
حين خطا الوحش خطواته الاولى داخل المدينة ، هرع الصغار يلوذون بجدران متصدعة بفعل اطلاقات نارية ، وقذائف سابقة تركت آثارا واضحة ، فوق ملامح مدينة خربتها أيد عابثة . وخلف الابواب الموصدة ، ومن خلال نوافذ شبه مغلقة ، أطلت نظرات فزعة ، ترقب الخطر الغريب الداهم . واقع أشبه بالكابوس ينشر ظلاله القاتمة . ارتفعت همهمات عديدة . صرخ أحد المارة بعد أن أطلق ساقيه للريح ، وقد بدت عليه علائم الدهشة الشديدة : (( انه كائن غريب ، ضخم ، بسيقان متعددة ، لقد أبصرته بعيني ! )) . كانت خطوات الوحش تترك وقعا مفزعا في النفوس ، تهتز على أثره البيوت المتناثرة على جانبي الطريق . اختفى المارة في الشوارع ، وساد سكون وهدوء متفجر . كانت عينا الوحش الحولاوان تقدحان بالشرور ، وهو يلقي ذراعيه ، بشعرهما الكثيف المنسدل ، في مختلف الاتجاهات ، وبعشوائية توقع الضرر في كل الموانع والمواقع التي تعترض طريقه .
أراد البعض من المتذمرين ايقافه أو زجره ، او اصابته بمقتل ، غير انه كان يزوغ كالشيطان ، ليختفي في مكان ، ثم يطل ثانية في مكان آخر ، وهو يطوح بقدميه وذراعيه ، ينشر الخراب ، مطلقا قهقهات ساخرة عنيدة . تراجع الكثيرون مندحرين ، ولم يجرؤ أحد على مواجهته ، فمعنى ذلك الموت المحقق امام كائن متوحش ، لعبته الوحيدة افزاع الاخرين ، وقتل الحياة المتدفقة في مختلف الاشياء المتوهجة النابضة . صرخ البعض به من خلف حواجز متخفية ، أن يعود القهقرى ، وأن يكف اذاه ، ورماه البعض بالحجارة ، وقطع حديد صغيرة ، وكل ما يقع تحت اليد يقذف به . كان جسده كالجدار الصلد ، لا تؤثر فيه تلك المقذوفات الصغيرة . أظهر الكل عجزهم الكامل ، متحصنين خلف أبنية صامتة ، متداعية ، واختفت ثرثرات الصغار المفزوعين ، وهم يستسلمون للخطر الغريب ، الداهم ، بين لعنات الامهات ودعواتهن الحارة الشاكية . حين يقترب الوحش من بعض البنايات العالية ، كان يلقي بظهره الخشن المتحجر ، الى جدرانها ، ساكنا لبعض الوقت ، يلتقط أنفاسه المتهدجة ، ثم تمتد ذراعاه ليقتلع النوافذ العلوية ، والشرفات المطلة على الشوارع ، وهو يطلق حشرجات وصرخات تدوي في سماء المدينة الامنة ، المقهورة . انقطع الناس عن مغادرة بيوتهم لأيام عديدة ، بانتظار ان تحل بالوحش الغريب كارثة مفاجئة ، او تنوشه صاعقة من السماء ، فالكل عاجزون ، لا حول لهم ولا قوة ، وقد اوكلوا أمرهم الى المجهول .
ارتفعت صرخات شديدة واستغاثات من بعض الامكنة ، مصحوبة ببكاء أطفال . كان الهواء المشبع برائحة الموت ينقلها الى الاذان ، فتتحرك الاجساد مقهورة ، لا تبرح اماكنها الضيقة . امتد الليل طويلا ، ثقيلا ، رازحا بالاحتمالات المفزعة . فارق النوم عيون الصغار ، والكبار معا . أصبح النوم غير المنغص أمنية مستحيلة ، وفي السماء البعيدة انطفأت النجوم لتحل محلها التماعات حارقة ، هي الرذاذ المتطاير من أشداق ذلك الكائن الجهنمي . لم يكن الديناصور منقرضا اذا ، كما يرسخ في اذهان البعض وعقولهم النائمة ، فها هو ينهض بعد رقدة طويلة ، ليخطوا من جديد في المدن الغافية ، بعد أن تراجعت الغابة التي كان يرتع بها ، وهو يفرض سطوته على الكائنات الصغيرة ، المذعورة ، التي كانت تلوذ بالجذوع الكبيرة ، وفي حفر داخل الارض ، تتحاشى وجوده ، بهيكله الضخم ، وأذرعه الكثيرة التي يطوحها في كل الانحاء ، ليقتلع الاشجار والنباتات العالية ، ويدوس الخضرة اليانعة ، بقدميه الصخريتين . من أيقظ الوحش بعد هذا الزمن الطويل ، بعد أن كان مخدرا في جحره الاثري . لقد داهمت خياشيمه رياح الغابة ، وهي تهب كاسحة ، على غير العادة ، فأفاق ليعاود صولاته القديمة . في ظلمة الليل هرب الكثيرون ، متسللين من بيوتهم ليفزعوا باتجاه القرى وأماكن نائية لا يطالها الوحش . فرغت المدينة الا من اصداء التأوهات والالم الممض الذي كان يترك أثره العميق في النفوس ، فتهب لاعنة مستغيثة . كان الظلام رازحا حين زعق في الجو ، صوت مدو لطائر خرافي كان ينشر جناحيه الهائلين على المباني والازقة . أبصره البعض يحوم كالومض في سماء المدينة ، وهو يطلق زعقات تهتز لها الجدران . تضاعف الخوف وتكتمت الانفاس ، وخبط جناح الطائر الضخم جدارا عاليا ، فتهاوى الى الارض ، وقد تطايرت الشظايا فوق السطوح القريبة . ساد سكون مفاجئ . كان الوقت يقترب حثيثا من الفجر حيث بدأت الخيوط الاولى للنور تشق طريقها في سماء ملبدة بدخان كثيف . طال صمت كنسمات عليلة تداعب نفوسا ظمأى . تجرأ البعض ليطل برأسه من خلال شقوق وفرجات الابواب الموصدة ، وانقذف البعض بخطوات حذرة نحو الشارع ليطالعوا منظرا مهولا ، تسارعت أرجل الصغار والكبار ، لالقاء نظرات مبهورة ، تطالع المشهد الغريب : الوحش وهو ينطرح جثة هامدة ، مطوحا باذرعه المتفحمة حول جسده الممتلئ بالثقوب ، وقد فقأت عيناه وانحدر منهما سائل أصفر كالصديد . لقد أصبح الوحش فريسة سهلة للطائر الخرافي الذي ملأ جسد الوحش بالثقوب ، بمنقاره المسنن القوي . هتف أحد الصغار مهللا : (( مات .. مات الوحش ! )) غير ان البعض تراجعوا الى الخلف حذرين ، وهم يبصرون ذنب الوحش ، ينتفض انتفاضات واهنة ، يائسة .
بقلم: هادي والي
https://telegram.me/buratha