محمد وناس ||
مثل كل ابناء الفرات , كان ابو عباس يعتمر العقال الفراتي الغليظ تاركا فراغ صغير بين طيتيه بقامته , القصيرة ودشداشته السمراء المقاربه لسحنه وجهه المحمره من تقادم الزمن عليها .
يبيع المشروبات الغازيه ( البارد ) في حوض بلاستيكي عند طرف شارع الموكب بجوار عشتار .
كنا صغارا لا نعرف الخطوط الحمراء ,حرص اهلنا على ان لا ندخل الاثار ولا نقترب من الفرات الا برفقتهم خوفا علنيا .
مع كل محاولاتهم لمنعنا كنا نسرق اللحظات التي تغفل عيونهم عنا كي نسرع للفرات او نذهب الى المدينه الاثرية. ومساء حين نعود نهيئ انفسنا ل (قاط خفيف ) مع توبيخ يحمل نفس العبارات كل مره من الوالده رحمها الله .
في يوم الجمعه استفيق قبل الوقت كي اهيئ نفسي للذهاب الى الاثار بشكل رسمي حسب اوامر الوالد وبرقته .
نجلس قليلا مع ابو عباس . يستفزه والدي بسؤال من هنا او اشارة من هناك لينطلق هذا الشيخ السبعيني بسرد حكاياته عن عشيقته عشتار . وعن وطنه بابل . لا يوقف حديثه الا السائحون الذين يشترون منه المشروبات فينطلق ابو عباس بلغه الانجليزية مغردا كعجوز لندني . او بالألمانية بلا تعثر فتحسبه مولدا في برلين يثير في نفوس السائحين كل ما في داخلي من اساله . فاغتم الفرصه كل مره وأعيد عليه نفس السؤال كيف تعلمتها يا جدي ابو عباس . ويجيبني نفس الاجابة كل مره .... يا صغيري خمسون عاما من العمل معهم قسمتها بين الاثنين بالتساوي جعلتني اجيد لغتهم . حتى اصبح الباحثون يأتون لسؤالي عن تفاصيل كثيرة عاصرتها او عن اسماء عملت معها . خمسون عاما وانا افتش بين حجارة هذه المدينة اعرف كل جزء فيها وكل صخره بل اني استطيع ان ارسم لك ما نقش على كل جدار في هذه المدينه . احفظها كاسمي . احصيت تفاصيلها اكثر من جسمي . بكل بساطه يا صغيري هي بيتي وحياتي وحين اخرج منها اجدني مشدود لها بكل وجداني , لا اقوى على فراقها .
اعرف كل من حكموا فيها , وهم ايضا يعرفوني ويأتون لزيارتي ليلا في احلامي . ارافقهم في تجوالي بين جدران القصور اكلمهم ويكلموني . حتى اني صنعت لهم في مخيلتي صورا تليق بهم . تشبه تماثيله المطرزه على الجدران .
يستفزه والدي مره اخرى ومن هو اكثرهم قربا الى قلبك يا حاج ابو عباس .
يسحب كيس التبغ ليصوغ منه سيجارة ماسحا بطرف لسانه على جانبها , ومع اطلاقه لأول سحابة دخان من لفافته ينشد اسمها .. انها عشتار . الهة الحب والجمال . سيدة بابل والفرات...
فينطلق ابو عباس بصوته الهادر منتفضا ... اتعلم لما اتخذت هذا المكان محلا لجلوسي دائما بعد تقاعدي من العمل في التنقيب يا ولدي ...؟؟؟؟؟
كان هنا في نفس هذا المكان تمثال لمعشوقتي عشتار . في اول شبابي وبدايات عملي كنت ضمن الفريق الذي رفع هذا التمثال ولفه بالقطن والقماش وضعته في حوض سيارة حملته الى مكان مجهول . لم اكن حينها مغرم ولم اكن اعلم ان عشتار قد سلبت قلبي مثل كل من عرفوها قبلي . .
كان عزائي ان تمثالا اخر لها في الطرف المقابل لشارع الموكب مازال موجودا . احدق فيه كل يوم اتفحصه كل ما سنحت لي الفرصه .
بداء عشق عشتار يغزو روحي فصرت اغازل التمثال في الذهاب والإياب . مره احتضنه ومره امسح التراب من فوقه .
وحين يستولي علي التعب اجلس في مكاني هذا وأراقب عشتار وهي تؤدي رقصتها المقدسه امامي , بثيابها المطرزه بالجواهر , تهتز روحي طربا لطيفها حتى وصل بي الحال ان اسمع صوتها وضرب الاوتار على قيثارتها . نعم قد تكون خيالات اخترعتها من هوسي لكني اقسم اني عشقتها حد الجنون .
وفي احد ايام السبت وبعد عطله الاسبوع حظرت لأجد ان التمثال الاخر قد اختفى . رفعوه مثل سابقه في يوم استراحتي . ليستقر في بغداد في المتحف الوطني .
يا ولدي عشتار كانت حلمي .وعشقي وسيدتي
وهذه الصخور موطني وبيتي .
توفي ابو عباس وعشقه لعشتار لم يمت . وكل ما ذهبت الى اثار بابل اقف في محل جلوس ابو عباس وأحاول ان اتخيل عشتار كما رسمتها كلمات ابو عباس وحين اتجول مع ابنائي اليوم في موطني ومسقط راسي افتش في مابين الجدران عن تلك الجميله عشتار التي عشقتها من حكايات الجد ابو عباس
https://telegram.me/buratha