( بقلم : د. حاتم جبار الربيعي )
(دعوا الفتنة نائمة لأنها عندما تستيقظ فسوف يندم العراقيون)ظهرت في بعض القنوات الفضائية و المواقع الألكترونية ، خلال الفترة الماضية وبعد توفر الحرية المطلقة في العراق ،عددا من الندوات والمقالات هدفها إثارة النزعات الطائفية والعنصرية من قبل بعض الكتاب ليعبروا فيها عن حرية التشهير والإفتراء والدس والطعن، بدلا من حرية الرأي التي تمارس عادة في الدول المتقدمة لغرض الأصلاح والتطوير، وكان من أشدها هجومهم على القرآن والأنبياء والصحابة والأئمة الأطهار والرموز الدينية والوطنية ،والدعوة للطائفية والعنصرية بمختلف الوسائل، وعلى سبيل المثال، ادعاء بعضهم بأن أصل غالبية العراقيين وخاصة سكان الجنوب ليس عربيا بإدعاءات وافتراءات لاتمت الى الحقيقة والواقع الذي يعرفه الجميع ووصفوا وكأنهم كائنات جاءت من القرون الوسطى أو الكواكب الأخرى والطعن بوطنيتهم ومواقفهم الوطنية والقومية المشهودة ، اذ شاركوا في كل الحروب الوطنية والقومية وقد تصدوا ببسالة للأحتلالين البريطاني عام 1920 والأمريكي عام 2003 ،ولأن لكل فعل رد فعل، فقد رد عليهم آخرون بمقالات أو ندوات قد تشجع على تفتيت لحمة الشعب العراقي وتمزق أوصاله بعد أن تحركت لدى البعض منهم المشاعر الطائفية التي هي عبارة عن رد فعل المظلوم تجاه الظالم وعن إحتماء الفرد بجماعته الفرعية (طائفته) لمقاومة ظلم تمارسه الدولة أو يمارسه المجتمع.
فالطائفية لاتبنى على الإختلاف في الرأي وإنما تبنى على التعصب المبتذل للرأي ، إنها ترفض التعايش مع الآخر وتهدف إلى إقصائه وتهميشه وهي لاتقبل المشاركة العادلة وإنما تمارس الإستحواذ على كل شئ إذا هي قضية سياسية إجتماعية بالدرجة الأولى. كما إن الطائفية لاعلاقة لها في الواقع بتعدد الطوائف والديانات إذ من الممكن تماما أن يكون المجتمع متعدد الطوائف الدينية أو الأثنية من دون أن تؤدي إلى مشاعر الحقد والتفرقة إذا ماتم توجيه المجتمع بالولاء للدولة والقانون الذي يمثله كما تشهده معظم دول العالم.
وبودي أن أبين إن رسالة المثقفين التي من المفروض القيام بها هي ليس تحريك واثارة النعرات الجاهلية والطائفية والعنصرية بل من المفترض أن تجود ألسنتهم و أقلامهم بما يخدم لحمة الشعب العراقي وتضميد الجراحات التي نزفت كثيرا لا أن يهيجوا بل يفتحوا جروحا جديدة، ونحن نعرف إن اصحاب المبادئ والمثقفين لا تأخذهم الأحقاد التي تعمي عادة بصائرهم عن الحق والحقيقة.
وأن نبتعد عن العصبية التي هي مناصرة المرء قومه أو أسرته أو مذهبه أو معتقده فيما يخالف ماأمرنا الله به وينافي الحق والعدل إذ إنها من أخطر النزعات وأفتكها في تفريق شملنا وإضعاف طاقاتنا الروحية والمادية وقال رسولنا الكريم (ص) ( ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية) و (من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية،بعثه الله تعالى يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) وقال (ص) ( إن الله تبارك وتعالى قد أذهب بالإسلام نخوة الجاهلية، وتفاخرها بآبائها، ألا إن الناس من آدم، وآدم من تراب، وأكرمهم عند الله أتقاهم) وأصدق شاهد على واقعية الإسلام لأنه دين السلام والتسامح بأستنكاره النعرات العصبية المفرطة وجعله الإيمان والتقى مقياسا للتفاضل أذ أن أبا لهب وهو من صميم العرب وعم النبي صرح القرآن بثلبه وعذابه وذلك بكفره ومحاربته لله ورسوله بينما قرب رسولنا اليه وأمتدح بلال الحبشي وصهيب الرومي وكان سلمان فارسيا، بعيدا عن الأحساب العربية، وقد منحه الرسول الأعظم (ص) وساما خالدا في الشرف والعزة، فقال (سلمان منا أهل البيت) وما ذلك إلا لسمو إيمانه، وعظم إخلاصه، وتفانيه في الله ورسوله. إن العصبية الذميمة التي حذرنا الاسلام منها هي التناصر على الباطل والتعاون على الظلم والتفاخر بالقيم الجاهلية أما التعصب للحق والدفاع عنه والتناصر على تحقيق المصالح العامة كالدفاع عن الدين وحماية الوطن وصيانة كرامات المواطنين وأنفسهم وأموالهم فهو التعصب المحمود الباعث على توحيد الأهداف والجهود وتحقيق العزة والكرامة. وقد قال الله سبحانه وتعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات13 ).من إستقرأ تاريخ الشعوب وتتبع العلل والأسباب في تأخرهم وتمزقهم وإحتلالهم من قبل الآخرين توصل الى الإستنتاج بأن النزعات العنصرية والطائفية والعرقية هي السبب في ذلك، إذ تنخر الطائفية عظام كل مجتمعاتنا التي يجب علينا جميعا نبذها ومحاربتها لا أن نثيرها ونمهد لها.
ولنستفيد من سلوكية شعوب العالم المتحضرة التي تخلت عن العنصرية ولنتعلم من تجربتها فكيف أصبحوا لاينظروا الى لون أودين أوطائفة أو عرق المواطن بل الى كفاءته وعمله ووطنيته وأخلاقه، وللنظر بتمعن إلى الميثاق الدولي لهيئة الامم المتحدة فقد نصت المادة (2) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان : لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان دون تمييز، كالتمييز بسبب العنصر، أو اللون، أو الجنس، أو اللغة، أو الدين، أو الرأي السياسي، أو الأصل الوطني،أوالاجتماعي.
وقد جاء في إعلان الأمم المتحدة الخاص بالقضاء على التمييز العنصري بكل أشكاله الذي صدر في 20/11/1963 إن التمييز بين البشر على أساس العنصر أو الدين أو الأصل الإثني هو جريمة في حق الكرامة الإنسانية وأكدت الاتفاقية الدولية للقضاء على التمييز العنصري بكل أشكاله التي أقرتها الجمعية العامة للأمم المتحدة في عام 1965 إن الدول الأطراف في الاتفاقية تتعهد بحظر التمييز العنصري والقضاء عليه بكل أشكاله وبضمان حق كل إنسان في المساواة أمام القانون فيما يتعلق بالحقوق الإنسانية والحريات الأساسية.
كما تشجب جميع الدعايات والتنظيمات القائمة على الأفكار أو النظريات القائلة بتفوق أي عرق أو أية جماعة من لون أو أصل اثني واحد، أو التي تحاول تبرير أو تعزيز أي شكل من أشكال الكراهية العنصرية والتمييز العنصري، وتتعهد بإتخاذ التدابير الفورية الإيجابية الرامية إلى القضاء على كل تحريض على هذا التمييز وكل عمل من أعماله، وتتعهد خاصة، تحقيقا لهذه الغاية ومع المراعاة الحقه للمبادئ الواردة في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وللحقوق المقررة صراحة في المادة 5 من هذه الاتفاقية،بمايلي:
أ) إعتبار كل نشر للأفكار القائمة على التفوق العنصري أو الكراهية العنصرية، وكل تحريض على التمييز العنصري وكل عمل من أعمال العنف أو تحريض علي هذه الأعمال يرتكب ضد أي عرق أو أية جماعة من لون أو أصل أثني آخر، وكذلك كل مساعدة للنشاطات العنصرية، بما في ذلك تمويلها، جريمة يعاقب عليهاالقانون. ب) إعلان عدم شرعية المنظمات، وكذلك النشاطات الدعائية المنظمة وسائر النشاطات الدعائية، التي تقوم بالترويج للتمييز العنصري والتحريض عليه، وحظر هذه المنظمات والنشاطات واعتبار الاشتراك في أيها جريمة يعاقب عليها القانون. وقد مرت شعوب العالم بحروب طاحنة بسبب التمييز العنصري كما حدث في جنوب افريقيا وامريكا وكثير من الدول إلا أن جنوب أفريقيا تعيش الأن بأمن وسلام بعد أن تخلت حكومة البيض الأقلية عن السياسة العنصرية التي كانت تنتهجها وكلنا نسمع ونشاهد هذه الأيام كيف ان امريكا تحولت من دولة للتمييز العنصري بين البيض والسود في القرن الماضي الى دولة ربما يقودها ويصبح رئيسها رجل من عائلة افريقية مسلمة بعد ان نال ترشيح كثيرا من الولايات الامريكية. لذا على المواقع الألكترونية ووسائل الأعلام الأخرى عدم الترويج للأفكار التي تسئ للدين والمذهب والمقدسات ، والإبتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري أو الإساءة للرموز الدينية والوطنية بحجة حرية الرأي، وعلى كتابنا أن يبتعدوا عن إثارة النعرات الطائفية والمناطقية والعشائرية، لأنهم يمثلوا الشريحة الواعية في المجتمع، أما الذين لايفيدهم النصح وتأصلت لديهم الأحقاد ربما لاينفعهم إلا ما إقترحناه بعد سقوط النظام بأن تؤسس في العراق مصحات أو مراكز نفسية خصوصا للمتعلمين منهم لغرض إجتثاث رواسب الماضي، ولكن تظهر الحيرة والمشكلة مع البعض الذين يعيشوا خارج العراق ولم يتأثروا بالمستوى الحضاري والتقدم الذي تعيشه الدول التي يقيموا بها، لذا نتمنى من الله أن يهديهم الى الطريق السليم ويشفيهم مما إبتلوا به من عقد وأمراض نفسية خلال العقود القاسية الماضية التي مر بها العراق، وقد قال الله سبحانه وتعالى (أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ أَن لَّن يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغَانَهُمْ) (محمد 29 ).
وألا يحق لنا أن نطالب بترك الفتنة نائمة بل لنساهم بالقضاء عليها لمصلحة جميع العراقيين كما ذكرنا من موعظة اشتققناها من قول نابليون عندما أشار الى ترك العملاق الصيني نائما الذي يعيش سكانه في أخوة صادقة وبدولة واحدة رغم انتمائهم إلى 56 قومية وأعداد كثيرة من اللغات والأديان والطوائف والمعتقدات، بعد ان منحت السلطة المركزية القوميات الإدارة الذاتية للحكم و سمحت لهم بممارسة الطقوس الدينية والخصوصيات الثقافية و القومية.
https://telegram.me/buratha