بقلم السيد عبد اللطيف العميدي
لقد أولى الإسلام وتشريعاته قضية حقوق الإنسان الأهمية الكبرى في مجمل قوانينه السماوية ، فأنشأ الحدود والقصاص والديات والتعزيز ولم يستثني أبسط الحقوق الشرعية حتى في أرش الخدش ، فجعل عليه دية تعطى لصاحبه .
فمن ذلك جاءت في القرآن مئات الآيات التي تخص حرمة الإنسان بما هو أنسأن ثم أولت للمسلم حرمة خاصة تكفل حرمة الدم والعرض والمال . ثم أولى أئمتنا الأطهار هذه القضية العناية الكبرى أيضاً . فمن منا لم يسمع بخطب الإمام علي في القسمة بالسوية والعدل في الرعية وإنصاف غير المسلم ، ثم تجلت العناية في حقوق الإنسان بأن أفرد لها أمامنا زين العابدين كتاباً ضخماً أسماه (رسالة الحقوق) هذا الكتاب الذي شرحه قرابة الأربعين من علماء الاجتماع والحقوقيون ولم يتمكنوا في كشف خزائنه ودرره إلى ألان .
فتجد في طياته حق الله ، وحق الإمام وحق الشريعة وخق المرءة وحق الجار وحق ذوي القربى وحق الأقليات الدينية والعرقية وحق العبيد وذوي الاحتياجات الخاصة إلى غيرها مما لا يسعها المجال حتى ذكر بل وحق الحيوان .
إلا أن تلك التعاليم شأنها شأن تعاليم القرآن الكريم ولشديد الأسف بقيت حبراً على ورق تلوكها ألسنة الساسة والأمراء وأدعياء حقوق الإنسان دون أن تجدلها شيئاً من التطبيق على أرض الواقع ، فها هي الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي ومن قبلهما عصبة الأمم تخوض يومياً في الحديث عن حقوق الإنسان والدعوة إلى السلم والتعايش لكنها وصلت حد النخاع في سلب حقوق شعوب بأكملها فضلاً عن الأفراد وما نشهده في قطاع غزة وفلسطين عموماً وفي العراق وأفغانستان خير شاهد على ذلك.
ولنتحدث عن عنوان موضوعنا بعد هذه المقدمة . فليس خافياً على أحد ما يطلع به الأعلام بوسائله المتنوعة في تحريك الإحداث بل في صنعها في كثير من ألازمان . فالأعلام له اليد الطولى والدور الأبرز في كشف الحقائق وإظهار التجاوزات على الفرد والمجتمع والحياة بأسرها ، فكل حدث أو وقعة أو نشاط أو تجاوز على حق معين إذا لم يتم تغطيته إعلاميا سيتلاشى وسيذهب أدراج الرياح وفي صفحات التأريخ المنسية ففي مجال حقوق الإنسان وفي كل العالم يتم التجاوز على الأفراد والجماعات ولا يسمع عنها شيء إلا تلك الإحداث والجرائم التي تنال حقها من الدعاية الإعلامية المقروءة منها والمسموعة والمرئية ، وهي نسبة قليلة جداً مما يقع في العالم من انتهاكات ويتم التكتم عليها بسبب غياب الأعلام والصحافة في ثناياها .
ولو أردنا أن نتحدث عن الأعلام وحقوق الإنسان في العراق الحديث فنجد أن الأعلام الداخلي والخارجي كان مغيباً تماماً عن مئات الآلاف من المجازر والمئاسي التي كانت تقع في زنزانات وطوامير البعث الكافر وفي الحروب العبثية التي كان النظام يتلذذ بإشعالها وإبادة الجنس البشري وبأبشع صور القتل والتصفية ، وكل ذلك كان يجري ويحدث بصمت مطبق من الأعلام العالمي وواجهات حقوق الإنسان . والسبب الرئيسي في ذلك أن النظام مارس سياسة التعتيم الإعلامي وجعل العراق كله في سجن كبير لا يسمح لصحفي أو صحيفة أن تنقل ما يجري ، إلا نقل كل ما من شأنه تلميع صورة النظام وإظهاره بأنه حامي البوابة الشرقية وبطل العروبة ورائد الثقافة والفن . فكانت مهرجانات الرقص والليالي الحمراء واحتضان الساقطين والمتملقين تقام بكثرة فترك العراق بلد الحضارات والأنبياء ترتع فيه تلك الخنازير البشرية ليل نهار ، وبالمقابل وفي نفس الوقت كانت الورود من شباب العراق ومثقفية وعلمائه تقطع رؤوسهم في مقاصل أبو غريب وأحواض تيزاب العفالقة ، وتتلوى أجسادنا بسياط الجلادين .
فأين كان الأعلام من كل تلك الانتهاكات ؟ والجواب بسيط : أن المقبور صدام التفت إلى ذلك الدور الريادي الذي يلعبه الإعلاميون فتحرك عليهم منذ اللحضة الأولى لحكمه وقرب أزلامه منهم وأقصى وقتل الباقين من أصحاب الأقلام المهنية فبات لا يُسمع في العراق إلا بوق الدعاية البعثية المزيف ، حتى أصبح العرب وأغلب دول العالم تتناغم على إيقاعات الأبواق الإعلامية تلك ، فنشأ من ذلك بون شاسع بين ما يحدث في العراق .الجريح من التفاوت الطبقي كما وصفه المفكر الخالد الدكتور أحمد الوائلي ببيت من أحدى قصائده .في القصر أغنية على جدث الهوى – وفي الكوخ نقر في المحاجر يسمع
فكان أعلام الدولة آنذاك وتبعه الأعلام العربي يتحملان القسط الأوفر من المآسي التي تعرض لها حق الإنسان العراقي المستلب . فالأعلام إذا لم ينقل ما يرى بحرفية وأمانة فأنه قد اشترك في انتهاك حق الإنسان . فهذا نبي الرحمة (ص) يتعرض لهذا المبدأ بقوله (من سمع واعية المسلم ولم ينصره فليس بمسلم ، وفي عبارة أخرى فقد خرج من ربقة الإسلام) وقوله (ص) ( الساكت على الحق شيطان أخرس) سواء كان ذلك حق الشخص نفسه أو حقوق الغير.
هذا هو مفهوم ودور الأعلام في مسألة حقوق الإنسان ولو كان المجال يتسع لتحدثنا عن حقوق المرءة في الإسلام والتي مع الأسف لم يُسلط عليها الضوء . وبعد أن أنجلى ذلك الكابوس المقيت من صدر العراقيين وتنفسنا الصعداء ، أصبحنا نشهد انتهاكات جديدة لحقوق الإنسان ولكن من نوع أخر فبات العراق ساحة يتقاتل بها السلفيون وخوارج الزمان مع جيوش الاحتلال في محرقة يذهب وقودها أبناء البلد المبتلى بجيران السوء . فباتت حقوق الإنسان العراقي تنتهك يومياً من هذا و ذاك .
أما الأعلام فبمجرد حدوث فسحة الحرية التي تحققت انفتح المجال له على مصراعية ففتحت عشرات الفضائيات ودخل الشباب العراقي من كلا الجنسين في سلك الأعلام والصحافة وما رسوا دوراً كبيراً في نقل الحقائق الغائبة عما جرى ويجري إلى العالم ، وبفضل الدماء الزكية والبريئة التي أريقت من المئات منهم انكشف للعالم العربي بالأخص زيف دعوى (المقاومة المزعومة) وأصبح العالم يرى موبقات أولئك الإعراب من قطعان الانتحاريين الذين يقتلوننا بأجسادهم النتنة تاركين بلدانهم يرتع فيها الصهاينة في المنتجعات ويرفرف علم الدولة العبرية على معاقلهم .
فلو لا سواعد وأقلام الإعلاميين العراقيين وتضحياتهم لما أتضح للعالم صورة ما يجري في العراق الجريح ، هذا هو دور الأعلام الرائد في نقل الإحداث وصنعها . إلا أن عقبة كبرى أمام الإعلامي تحول دون أن يتصدى لكشف تجاوزات كبرى بالصورة التي تستحقها ، والسبب يعرفه الجميع وهو أن الإعلامي نفسه لا يملك ضمان حقه وسلامة ذاته فيما إذا كشف كل ما يعرفه في حادثة ما أو انتهاك لفرد أو لجماعة ، إذ سيكون هو نفسه عرضة لتلك التجاوزات خصوصاً إذا تجاوز الإعلامي أو الصحفي الخطوط الحمر وفي مقدمتها المساس بالرموز والشخصيات ذات الحصانة والواجهات الرسمية أو المتنفذون ، وإذا ما فعل ذلك فأن فصولا من التصفية الجسدية والمعنوية سيشهدها . هذا طبعاً لا ينحصر في المشهد العراقي فحسب فالتجاوز على الإعلامي والصحفي متواصل في أغلب البلدان خصوصاً العربية منها وكان آخر ما شهدناه اعتقال ومحاكمة العشرات بسبب محاولتهم كسر جزء . من حصانة الرئيس المصري فئآل أمرهم إلى السجون ودفع الغرامات الثقيلة .
هذا هو المانع الوحيد الذي يحول دون أخذ الإعلامي دورة في كشف انتهاكات حقوق الإنسان . وأخيراً كلنا أمل وتفائل في أن تأخذ مسألة حقوق الإنسان في العراق مستقبلاً أفضل ومنحى جديد يحفض للفرد حقوقه خصوصاً مع ما تشهده من بوادر الانفراج الأمني ومواصلة العراق مسيرته الجديدة الخالية من قيود وسياط الجلادين
https://telegram.me/buratha