( بقلم: سماحة الشيخ جلال الدين الصغير )
نسبة اليماني من الناحية الموضوعية
من خلال ملاحظة المعطيات التي بين أيدينا عن الظرف الموضوعي الذي سيعيشه اليماني، نستطيع أن نعضّد ما ذهبنا إليه في الأسطر السابقة من أن اليماني لا علاقة له بساحة اليمن، فلو لاحظنا وضع الواقع السياسي الذي يعيشه اليماني في عشية خروجه سترتسم أمامنا الصورة التالية:
أـ وجود معركة طاحنة في قرقيسيا(1) ما بين الجيش السفياني والجيش العراقي وجيش غربي عن العراق في روايات وصف بأنه من الترك وفي أخرى وصف بأنه ابن عم للترك، وأياً ما يكن فالروايات كثيرة لتشير إلى وجود الروم في العراق وفي هذه المعركة تحديداً.
ب ـ وجود دولة عراقية ضعيفة يؤدي انكسار جيشها إلى اجتياح جيوش السفياني والخراساني لها.
ج ـ وجود دولة في الحجاز وبلاد الحرمين تشكو من الضعف الشديد بحيث يكون فيها الحكم مضطرباً، مع صراعات عديدة في داخل مؤسسات الحكم، ولكن مع وجود قاعدة كبيرة من النواصب فيها بالشكل الذي سيؤدي إلى قتل النفس الزكية قبل ظهور الإمام (عجل الله فرجه) بخمسة عشر يوم، ثم تستعين بالسفياني للقضاء على الإمام (روحي فداه) حال خروجه فيحصل عندها الخسف، ثم تعمل على قتل وكلاء الإمام لثلاثة مرات، بعد أن يتركها الإمام (عجل الله فرجه) ويتجه للعراق.
د ـ اجتياح لجيش الخراساني من جهة البصرة وجيش الحسني (وهو غير صاحب النفس الزكية الذي يقتل بين الركن والمقام) من جهة خانقين كما تشير إلى ذلك بعض الروايات.
هـ ـ لا توجد أية إشارة إلى وجود حراك أمني أو سياسي ذو دلالة في اليمن. (2)
عندئذ يمكن القول بأن نظام الدولة في المنطقة بصورتها المعاصرة ذات الحدود والسيادة يعمل به آنذاك، مما يجعل إمكانية أن يكون جيش اليماني مقبلاً لكي يكون منطبقاً عليه وصف: كفرسي رهان مع السفياني كما أفادت الروايات التي سلف الإشارة إليها من حدود اليمن أمراً مستغرباً جداً، فنحن نتحدث عن حركة خروج ثلاثية للسفياني والخراساني واليماني باتجاه الكوفة وما تمثله، في يوم واحد، وكأن هذه الحركة بمثابة ساعة صفر واحدة كما يبرز من حديث الخروج الثلاثي لهذه الرايات في سنة واحدة في شهر واحد في يوم واحد، ومثل هذا الظرف لا بد وأن يستبطن أموراً ثلاثة أساسية بالنسبة لليماني:
أولها: إن موضوع العراق حيوي وساخن جداً لدى اليماني، وهو ما يعني المعايشة اليومية لما يجري في العراق.
ثانيها: إن طريق الوصول بجيشه إلى العراق يتم بسرعة كبيرة حتى يمكن أن ينطبق عليه مصطلح (فرس الرهان المقابل للخراساني والسفياني).
ثالثها: إنه يعرف بتفصيل الشأن العراقي بحيث يتنادى بجيشه للاشتراك الحيوي والجوهري في موضوع العراق.
وهذه كلها تستدعي واحداً من احتمالين:
الأول: إما أن يكون إقبال اليماني من خارج العراق بجيشه وما يحتاجه من وسائل وآليات الدعم اللوجستي التي تجعل الجيش بحاجة إلى خلفية جغرافية واسعة النطاق مرتبطة بأماكن الدعم اللوجستي، لاسيما وإن القتال الموصوف في معارك ذلك الزمن يحتاج بطبيعته إلى وسائل إمداد وإدامة للعملية القتالية بصورة قد تفوق ما يحتاجه الآن، فعندئذ سنتساءل من أي حدود سيرد إلى العراق؟ وكيف سيؤمن خطوط الوصل المطلوبة للدعم اللوجستي والتي تعني حكماً وجود قواعد إمداد وإدامة؟ طالما وأن الحدود السعودية مع العراق لن تكون صالحة بدليل وجود دولة مناهضة له حكماً، والحدود مع الأردن وسوريا ستكون تحت وصاية السفياني، ومن الواضح إن هذا الاحتمال لا وجود لإمكانية تصوره، وهنا أؤكد على ما أشرنا إليه في إن حديثنا هنا لا ينظر إلى الأمور بمنظار اليوم، وإنما بمنظار ما أشارت إليه روايات الظهور وما قبله لمعطيات الواقع السياسي.
على إننا لا بد من أن نشير إلى إن الروايات الشريفة بالرغم من تحدثها عن مكان إقبال السفياني وإقبال الخراساني على الكوفة، ولكنها سكتت بشكل تام عن المكان الذي يتحرك منه اليماني.
الثاني: أن يكون إقبال خيل اليماني من داخل العراق، ولكنها لم تتجمع قبل تلك الساعة بالصورة التي تكون قابلة لإطلاق وصف الجيش عليها، مع وجود شأنية خاصة لليماني في وسط شيعة العراق على المستوى السياسي والأمني والديني تؤهله لتجميع القوة والعدة والعدد في حال التأزم السياسي والأمني، ثم تتجمع خيله في أجواء التسخين الذي تشهده جبهة قرقيسيا والتهديدات المنطلقة من مجيئ السفياني الملعون للعراق، وتنطلق لمجابهة السفياني ولكنه يسبقها إلى الكوفة نتيجة لانشغالها ربما في معارك عديدة مع جيوبه وأعوانه في بغداد وغيرها.
والمعطيات هنا بأجمعها تؤكد ذلك، إذ لا يعقل كل هذا الدور المصيري الذي سيلعبه العراق في حركة الإمام المنتظر (روحي فداه) كما تشير الروايات، ولا يكون في شيعة العراق من يمهّد للإمام (بأبي وأمي) في وسط هذه المعركة المصيرية، أو من يتصدى لأعداء الإمام (صلوات الله عليه) كالسفياني اللعين، بحيث إن الشعب العراقي ـ مع كل حيويته وعشقه للإمام (روحي فداه) وحماسه لذلك، يبقى يتكّل على جيوش خارجية لتغيثه!! مع العلم إن الكثير من أصحاب الإمام (روحي فداه) هم من شيعة العراق، إن لم تكن الغالبية منهم، وبالرغم من إن راية الحسني هي راية عراقية على ما يبدو ولها الجاه السياسي الأساسي، إلا إن الروايات تشير إلى إنها تعمل ضمن إطار راية الخراساني أو قريبا منها، ولهذا لم يشر لها بأنها راية محتومة واكتفى الناص المقدّس بالإشارة إليها ضمن إشارته لحركة الخراساني.
الدلالات اللغوية للقب اليماني
اعتاد المتابعين لقضية اليماني أن يحملوا اللقب على بلاد اليمن، ومن هنا نشأت شبهة إن اليماني من اليمن، وقد يكون ذلك صحيحاً، وقد لا يكون لاحتمال أن يكون المراد بلفظ اليماني معنى آخر غير المعنى المكاني، مما يجعل الحمل على المعنى المكاني هو من الأخطاء الشائعة.
وبعد أن عرفنا إن الحديث عن يمنية اليماني بمعنى أن اليماني من اليمن هو أمر لم يرد في روايات أهل البيت (عليهم السلام) على الأظهر، وإنما هو من مرويات العامة، ولا يمكن التعويل عليه، لهذا فإن إغلاق الباب على محامل اللفظ المتعددة الأخرى، يكون من تعسّف التحقيق، والدقّة تقتضي متابعة كل الاحتمالات الواردة في هذا المجال، خاصة وإن الانصراف الذهني المعاصر للكلمة، لا يقتضي بالضرورة نفس الانصراف في زمن وضع اللقب أي في زمن النص، بل لربما نلحظ إن الانصراف الذهني آنذاك لا يتشابه مع ما تنصرف الأذهان إليه اليوم، فلا تغفل.
والمرادفات اللغوية للفظ عديدة، على إننا سنلحظ إن إثبات أحدها لا ينفي الآخر، فقد ينطبق اللفظ بمرادفات عدة على شخص واحد، هذا وقد ورد في كتب اللغة العديد من التعريفات، وأولها بطبيعة الحال هو النسبة لليمن، ولربما تساعد رواية (طالب الحق) على إن الانصراف إلى هذا المعنى في زمن تلك الرواية يشير إلى المكان فقد سأل هشام بن سالم الجواليقي (رضوان الله تعالى عليه) الإمام الصادق (عليه السلام) عن أحوال طالب الحق حينما خرج في اليمن، وقال له: أترجو أن يكون هذا اليماني؟.. الخ.(3)
وهنا نشير وفقاً للحمل على إن دلالة اللقب مأخوذة من المكان وتعود إليه إلى الأمور التالية:
أولاً: إن كونه من اليمن لا يستلزم أن يكون الخروج من اليمن، ولا يستلزم أن تكون ساحته الممهدة هي اليمن، فقد يكون من اليمن، ولكن لسبب أو لآخر يعمل خارجها نتيجة لظروف القسوة الأمنية أو المعيشية أو العقائدية أو ما شاكل فينصهر في موقع آخر ويحمل راية الخروج في ذلك الموقع، وهذا ما تقوّيه الروايات (اللهم إلا روايات العامة) التي لا تشير إلى جهود غير طبيعية للساحة اليمنية في الحركة الممهدة للإمام (روحي وأرواح العالمين له الفدا)، بل ربما تنعدم الإشارات لهذه الساحة في زمن التمهيد المباشر.
ثانياً: إن كونه من اليمن لا يقتضي الانحصار الزماني، بل قد يكون ممن هاجر قبل مدة كبيرة من اليمن، أو دعونا نقول: بأنه قد يكون أصله من اليمن، دون أن يكون له أي ارتباط بالساحة اليمنية في زمن الخروج، وهذا ربما تقويه كثرة العشائر اليمنية التي هاجرت للعراق والشام والخليج وجنوب إيران الغربية، فالكثير من عشائر جنوب العراق ولبنان وإيران على سبيل المثال يمنية الأصل، وقد هاجرت ضمن موجات هجرة العشائر اليمنية في سالف التاريخ، وبالنتيجة يمكن لأحد أبنائها أن يكون هو المعني، ولربما هذا هو أقوى الاحتمالات، وهو ينسجم مع كون اهتمام الرجل منصبّاً على العراق كما تظهر الروايات الشريفة.
وثانيها: يحمل اللفظ على كل من له صفة اليمن والبركة، وبالنتيجة يحمل اللقب على صفة أعمال الرجل، لا على انتمائه الجغرافي، وبالنتيجة فإن لقبه قد يكون بعيداً عن هذا اللقب، ولكن لكثرة اليمن والموفقية في عمله يشار إليه باليماني في الروايات، وهذه الإشارة قد تكون خاصة بواضع النص، هو من يطلقها على صفة أعماله ولا علاقة لها بإطلاق الناس له مثل هذا الوصف، وقد يكون له من المحبوبية في قلوب الناس نتيجة لجهوده في نصرة قضاياهم وحمله لمسؤولية الدفاع عنهم، مما يجعله ميموناً في أنظارهم، من دون أن يطلق عليه هذا اللقب من قبلهم، وإنما حينما يتكلمون عن شخصيته أو أعماله يصفونها بأنها ميمونة.
وهذا بطبيعة الحال لا يتناقض مع ما ورد في أول الاحتمالات، ويمكن الجمع بينهما، لأن مثل هذه الصفات يمكن أن يجمعها أيضاً رجل يماني الأصل.
وثالثها: يطلق اللفظ أيضاً على كل من كان له أثر في اليمين المقابل لليسار والشمال، كأن يكون يمانياً في يده في مقابل الأعسر الذي يستخدم شماله، أو يمانياً في قدمه أو يده لأثر فيهما لأي سبب، وهذا هو الآخر لا يتناقض مع أول الاحتمالات ويمكن الجمع فيما بينهما.
ورابعها: قد يطلق اللقب على أصحاب الأيادي البيضاء الكريمة في تعاملهم مع الناس، وهو ليس ببعيد عن المعنى الثاني.
وخامسها: يمكن إطلاق هذا اللقب لأي سبب يحصل في حينه، أو قبل ذلك، كأن يكون لقبه اليماني لسبب أو لآخر من أسباب الدنيا المعتادة، من دون وجود أية صلة له باليمن، وبعد ذلك يعمم اللقب عليه، وهذا الأمر وارد، فالناس تتلقب بحادثة أو بكتاب(4) أو بواقعة معينة(5) .
وسادسها: يمكن أن يكون التلقيب متأخر على خروج الرجل، فقد يكون لقبه مختلف تماماً، وقد لا يعرف هو أنه هو المعني بهذا اللقب، ولكن الناس حينما ترى فعله، أو يرى هو فعله، فيلقب بذلك.
على أي حال يمكن لهذه الاحتمالات كلاً أو جزءاً أن تكون هي سبب التلقيب، مع تأكيدنا على إن هذا التلقيب، قد لا يكون له وجود في العالم الخارجي، وإنما هو لفظ أطلقه صاحب النص لواحد من الأسباب المذكورة، من دون ضرورة أن يتلقّب به الرجل قبل ظهور الإمام (روحي فداه)، على إنه يمكن القول بأن الإمام (صلوات الله عليه) قد يكشف عن هوية الرجل بعد ظهوره.
ولهذا فإن التعويل على سبب واحد وإلغاء بقية الأمور قد ينطوي على إجحاف كبير للحقيقة، فتأمّل. وقد يشكل البعض على إن عدم وجود اللقب في حين الحدث ربما لا يكشف عن إن الحدث المطلوب لكي يدلّ على الإمام (بأبي وأمي) هو هذا، وبالتالي تنتفي أحد أسباب جعله أحد العلامات الحتمية، وهذا الإشكال مع وجاهته إلا إن التدليل على هذا الحدث لا يقتصر على هذا اللقب، فمعركة كمعركة قرقيسيا مع ما سيتصاحب معها من إشارات كثيرة كانحسار الفرات وجفافه في فترة معينة، واضطراب الشام، ومعركة الرايات الثلاثة، وإقبال الجيش السفياني إلى العراق، وإقبال الجيش الخراساني إليه، ونزول الترك أو أبناء عمهم في الجزيرة (وهي المنطقة الجنوبية والغربية للموصل) فضلاً عن علامات وشرائط كثيرة وصفت بأنها كنظام الخرز يتبع بعضه بعضاً كلها ستكون حاضرة لتدلّ على اليماني، بالشكل الذي لا يجعل عدم التلقيب بهذا اللقب مانعاً من هذه الدلالة.
على أي حال هذا ما بلغ إليه جهدنا من العلم، وقد بذلنا ما استطعنا من أجل أن نكوّن صورة تتسم بالدقة العلمية في التعامل مع هذه القضية, ولا ادّعي لنفسي العصمة، ولكن نسأل الله أن يعيننا على السداد والصواب.
يتبع إن شاء الله تعالى
ـــــــــــــــــــــــــــــــــالهوامش:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) منطقة سورية تقع على الفرات وتبعد عن دير الزور المعاصرة بما يقرب من 42 كيلومتر، وهي قريبة من الحدود العراقية مع سوريا.(2) وما أشار إليه بعض الأفاضل بأن هذا الحراك ـ وإن لم تشر الروايات إلى وجوده ـ إلا إن ذلك لا ينفيه، لأن من الطبيعي أن يكون لهم التأثير الأساس ليس في اليمن فحسب وإنما في الحجاز والخليج، وقد قال ذلك بعد أن اعتبر أن ما وصفه بثورة اليمانيين الإسلامية قد وردت في روايات متعددة عن أهل البيت (عليهم السلام) وبعضها بوصفه صحيحة السند، وقد خلط بين روايات اليماني، وبين اليمانيين أو اليمنيين مما أوقعه في هذا الوهم، لأنه وكما رأيت لا توجد رواية واحدة عن أهل البيت (عليهم السلام) تتحدث عن اليمنيين لا صحيحة ولا غيرها، ومن الطبيعي إن هذا الأمر مبني على التفريق بين اليماني واليمنيين، وبالتالي فإن كل كلامه مردود، لكونه سالب بانتفاء الموضوع.(3) أمالي الطوسي (مصدر سابق): 661 ح1375.(4) لقبت عائلة الجواهري وكاشف الغطاء في النجف الأشرف على سبيل المثال نسبة لصاحب كتاب الجواهر أو كتاب كشف الغطاء لجدهم الأعلى، والكثير من العوائل على هذا المنوال.(5) كمثال فإن لقب صاحب الكتاب يعود لحادثة علمية وقعت في مضيف الشيخ صيهود شيخ عشيرة ألبو محمد في العمارة، مع الجد الثاني للمؤلف وهو المقدس الشيخ علي الصغير (قدس سره) ملخصها انه أجاب على قضية علمية بحضور أحد كبار العلماء الذي لم يستحضر الجواب فأجاب عنها معترضاً على الشيخ صيهود بأن مثل هذه الأسئلة البسيطة يسأل عنها طالب صغير مثله، فالتفت إلى مغزى كلامه الشيخ صيهود فلقب من تلك الحادثة بلقب الصغير، وإلا فعشيرة الكاتب هي آل جويبر وهم من أفخاذ عشائر بني خاقان المستوطنة في سوق الشيوخ في الناصرية.
https://telegram.me/buratha