سنلقي اللوم على غيرنا وعلى من سبقنا، وسيلقي غيرنا ومن يأتي بعدنا اللوم علينا.. وتستمر الدوامة، والحقيقة ان الجميع مسؤول عن تخلف منظوماتنا الاخلاقية والادارية والمسلكية والفكرية والمفاهيمية.. وعن تعميق تراجعها، وتسويقها للجمهور لتعيد انتاج نفسها. الحلة والجواز مبدأ المنظومات الفاعلة، والمنع والحرمة استثناء، والعكس في المنظومات المتخلفة. والقاعدة في المنظومات الفاعلة ان يخرج الجميع رابحين ولو نسبياً، والقاعدة في المنظومات المتخلفة ان يخرج الجميع خاسرين، وبالمطلق.. والسلوك في المنظومات الهادفة ان تدوس اليمنى على السرعة، وعند التباطوء والتوقف، ترفع اليمنى لتدوس على الكوابح.. اما في المنظومات المتخلفة، فتدوس اليمنى على السرعة، واليسرى على الكوابح، في آن واحد، والنتائج معروفة. فتأخرت البلاد عقوداً في الاقتصاد والسياسة والعلاقات والصحة والتعليم والادارة والقضاء وكرامة العيش والامن والاداب والفنون ومناحي الحضارة، عن الدول واقرب جيراننا.
تركيا مثلاً لا تمتلك النفط، لكنها تمنح الجنسية لمن يقيم مشروعاً برأسمال محدد، وتمنح الاقامة لمن يشتري عقاراً، لاستجذاب الاموال وتحريك المصالح. اما منظوماتنا فتطرد المستثمرين، باختطافهم وابتزازهم ومطالبتهم بتوفير مستلزمات تخلت عنها الدول منذ عقود طويلة، وادخالهم بسلسلة من التعقيدات الادارية في دخولهم البلاد واقامتهم، والتهديدات القضائية والجزائية والعشائرية والمناطقية، بحجة اننا نحمي نظامنا، من استغلال الاجانب الذين تشتريهم الدول الاخرى شراء، ونطردهم نحن باسوء الطرق.
لبنان مثلاً، لديه كثير من المغتربين والمهاجرين، الذين يعتمد عليهم في تطوير امكانياته ليس المادية فقط، بل ايضاً السياسية والاقتصادية والفكرية والعلمية والحضارية. فيقدم لهم كافة التسهيلات والضمانات في سفاراتهم وعند عودتهم، بتنظيم شؤونهم، مستثمراً ازدواج الجنسية لما فيه مصلحة لبنان واللبنانيين.. اما نحن فمنظوماتنا وتركيبة تفكيرنا تشاكس مواطنينا في غربتهم، وتطردهم عندما يعودون لبلادهم، ويحاولون تقديم خدمة لانفسهم ولوطنهم. فيطلب منهم المستحيل لتطبيع مستنداتهم، ناهيك عن وضع شتى الحواجز في المدارس والجامعات ان ارادوا التعلم او التعليم، وفي المستشفيات ان ارادوا التطبيب، وفي الوزارات ان ارادوا العمل، وفي القطاع الخاص ان ارادوا الاستثمار. فالعراقيون في الخارج سواء المزدوجي الجنسية او المقيمين، هم هبة وقوة ورصيد. فمنظومات الدول الاخرى تحصل على مواطنين وقوة بشرية مؤهلة وفنية مجاناً (كلفة وصول مواطن لسن 18 تصل لحدود 300 الف دولار/فرد في الدول الغربية).. اما نحن فلدينا العلماء واصحاب المواقع، المهاجرين والمتجنسين، الذين لا يكلفوننا قرشاً، فلا نحسن لا استثمار علمهم وطاقاتهم وهم في الخارج، ولا استقبال العائدين، فنطرد فريق ونعيد تهجير اخر، بطريقة او اخرى.
ايران مثلاً، لديها مثلنا صعوبات اقتصادية بسبب الحرب والحصار، فتحت مصارفها لاستقبال الاموال من الخارج، بتسهيل الايداعات ومنح اعلى الفوائد. ايران الاسلامية، غزت فنونها وعروضها السينمائية دول العالم، وهي اليوم قوة اقليمية وعالمية كبيرة.. اما منظوماتنا فتدمر حضاراتنا وفنوننا ومعارفنا.. وما زلنا نبحث عن الفلس ونخسر الدينار. فنظمنا وعاداتنا الاستهلاكية والجمالية والذوقية والاستثمارية والادارية وانماط تسلمنا لمواردنا بالية وقديمة.. بينما العالم يطور في كل يوم منظوماته وسلوكياته بما يخدم مصالحه. ما زلنا نستلم اجورنا، ونتعامل في اسواقنا نقداً، ودول العالم، تتعامل بالبطاقات والعملة الرمزية والحسابات المصرفية. فترانا نحفظ اموالنا في الخزانات الحديدية،اما خوفاً من الضريبة، او من غدر الدولة، او من ضعف المصارف مما يحرم الدورة الاقتصادية مليارات الدولارات، فنضطر للاستدانة، بينما الاموال موجودة بين ايدينا.
دول الخليج مثلاً، دول اسلامية، تمتلك النفط كالعراق. دول محافظة، مثلنا، يلبس رجالها الدشداشة والعقال، ونسائها الحجاب. فلم يمنعهم ذلك من تحديث منظوماتهم الادارية والمسلكية، وطبقوا ارقى النظم، وهضموا اعلى التكنولوجيات، ولديهم ارقى المدارس والمستشفيات ووسائل الاعلام والاسواق والمعارض والمطارات والنظم الادارية والصناعات. دول لا تمتلك المياه والثروات التي يمتلكها العراق، فنتج مياهها وتروي مزارعها من مياه البحر، ومنظوماتنا وسلوكياتنا لا تستطيع استثمار مياه الرافدين، بل توغل في تلويثها وتدميرها وهدرها.
هذه اشارات، والكلام مؤلم وطويل، أما آن الاوان للتغيير؟ {إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بانفسهم}.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha