يجب الاشادة بجهود وزارة المالية ووزيرها على جديتهم وتقديم موازنة 2017 مبكراً خلافاً للتجارب الماضية، وما يسببه التأخير من ارباك واضرار، وكذلك شجاعتهم لادخالهم العديد من المواد الاصلاحية لتقليص الهدر وتحسين الجبايات واعتماد النفقات الحقيقية لعام 2015 وتقليص العاملين والممثليات والايفادات اينما امكن، وايقاف حركة الملاك، عدا استثناءات قليلة، والسعي لتوفير موارد اضافية، وعمل الممكن لمساعدة المحافظات والنشاطات الاقتصادية، الخ.
لا تختلف الموازنة المقترحة كثيراً عن الموازنات السابقة بعيوبها ونواقصها المعروفة.. فهي موازنة بنود تحرص على ادخال موارد للخزينة اكثر منه لتحقيق موارد اضافية للاقتصاد الوطني. فالموازنة التي ستزيد قليلاً عن 100 ترليون دينار، تسعى لفرض المزيد من الرسوم والضرائب والمستحصلات، والاعتماد المتزايد على المديونية الداخلية والخارجية، والعجز المتجاوز 30% من النفقات. سيقول قائل ما العمل، واسعار النفط للاشهر السبعة المنصرمة كانت بمعدل32 دولاراً تقريباً، ومع معدلات التصدير فان الموارد النفطية لن تغطي سوى نصف التشغيلية تقريباً.. لذلك اعتمدت المالية سعراً متحفظاً وواقعياً بمعدل 35 دولاراً للبرميل، ومعدل صادرات 3.880 م.ب.ي (منها صادرات كركوك والاقليم 550 الف برميل/يوم).. فالزيادة عن السنة الماضية بمقدار 280 الف ب/ي ستعتمد على الوسط والجنوب فقط.
وهكذا نؤكد مجدداً، ان البلاد، رغم الازمة، غير مستعدة لتغيير فلسفتها بالاعتماد على النفط، والديون، والعجز، وفرض المزيد من الضرائب والرسوم على المواطنين والمصالح. فالسؤال الكبير هو، كيف سنسدد الديون ان استمر تراجع اسعار النفط؟ وكيف سيدفع المواطنون والشركات والمصالح المزيد من الضرائب والرسوم ان لم يكن هناك اقتصاد وطني يوفر العمالة، والمداخيل التي لا تمولها الدولة والنشاطات الاقتصادية والارباح التي تستطيع تحمل عبء المواطنين والاقتصاد، واعباء الخزينة ايضاً؟ فالاقتصاد منهك في زراعته وصناعته وخدماته وبناه التحتية وسياحته ومصارفه.. والعاطلون في تزايد مع النمو السكاني.. والحرب والنازحون واعمار المناطق المدمرة تتطلب كلها المزيد من الاموال التي لن يستطيع النفط والديون والعجز والجبايات توفيرها؟ صحيح ان هذا شأن الدولة والمجتمع ككل،
لكن المالية تستطيع ان تلعب دوراً اساسياً في الاصلاح عبر سياساتها المالية ومنها الموازنة. الاولوية يجب ان تضع كافة الادوات المالية لتنشيط الاقتصاد الوطني في قطاعاته الحقيقية، وليس توفير الموارد للخزينة اولاً واخيراً. لنضرب مثلاً بسيطاً عن الفارق بين نظرتين. هناك مثلاً تشديد على زيادة تعرفة سمة السياحة الدينية.. والسؤال هل اجرينا دراسة جدية ما سيتحقق للخزينة، وللاقتصاد الوطني، لو الغيت التعرفة او خفضت؟.. لعلها ستظهر بان عدد الزائرين سيتضاعف.. وستتضاعف مداخيل البلاد.. وستحصل المصالح العراقية، اهلية وحكومية، من عمالة ورسوم مباشرة وغير مباشرة واسواق وفنادق ومطاعم وشركات نقل ومنتجات، الخ، اموالاً قد تكون اكثر من الوارد الكلي لسمات الدخول، اضافة لتوفير نفقات اصدار السمات وفتح القنصليات، ولتوفير مبالغ السمات للعراقيين عند المقابلة بالمثل. فيجب ان نوازن الفائدة والضرر على الخزينة والاقتصاد ككل في اي اجراء. وعلينا، عندما نطالب بجبايات واستقطاعات اكثر ان نكون قد ولدنا مصدراً مسبقاً طبيعياً لاستحصال الاموال، يساهم بتنشيط الاقتصاد، بزيادة المداخيل والارباح من جهة، والتخفيف من وطأة البطالة ورفد الموازنة باموال حقيقية من جهة اخرى. هذا مثال بسيط، وهناك العشرات بل مئات الامثلة، التي يمكن للسياسة المالية والنقدية والاقتصادية، ان تحدثه لتحقيق اهداف اقتصادية حقيقية، غير النفط والديون والعجز، او بالاضافة المتوازنة لها، وبما يرفد الموازنة باموال حقيقية ومستدامة، وليس اموالاً مبتورة ومكلفة وغير مضمونة.
هذه ملاحظات سريعة، مع الاذعان مسبقاً انه لا مجال سوى اقرار الموازنة مع بعض التعديلات الشكلية.. ففي هذا التوقيت لا نمتلك بديلاً سريعاً اخراً.. فهناك وعي وظيفي وسياسي وشعبي تأسره فلسفة "الاقتصاد الريعي والاقتصاد الموجه"، وان التخلص من ذلك، يتطلب استعدادات مجتمعية وحكومية وبنيوية وتشريعية تسبق بكثير الوقت المطلوب لاعداد الموازنة، وهذه ليست مسؤولية جهة واحدة فقط، بل مسؤولية كافة مراكز القرار في الدولة والمجتمع اساساً.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha