لم يكن اعلان "الدولة الاسلامية في العراق والشام" مجرد اسم بدون اهداف ومضامين.. بل يلخص الاسم كل مرتكزات الاستراتيجية التي ارادها "البغدادي" ومن هم وراء "البغدادي".. فالاسم يرسم الارض والسكان والقيادة (الخليفة) وفلسفة المشروع، ويرسم ادواته عبر اثارة الرعب والتموضع بين التناقضات، واستغلال اضعف الحلقات.. واكثرها مناسبة لتعبئة جمهور واسع بامكانه انجاح المشروع ، كما يراها اصحابه.. تصوروا انه يمكنهم محاصرة "الحكم الشيعي" والتدخل الصفوي، كما يصفون.. حيث يلتقي هذا الهدف مع اهداف قوى كثيرة داخلية وخارجية، تختلف عن "داعش"، لكنها تلتقي في متبنياتها السياسية مع هذه الاهداف جزئياً او كلياً. والامر نفسه في سوريا حيث سيلتف كثيرون حول الشعار المرفوع لمواجهة "سلطة الحزب الواحد" وسيطرة "العلويين" ومنع تدخلات "حزب الله" و"ايران" في الشأن السوري.
وبغض النظر عن طبيعة وتعقيدات الاوضاع في العراق وسوريا، لكن ما غفلت عنه "داعش" او "النصرة"، بانهما لا تتقدمان بمشروع يتجاوز او يتقدم اوضاع البلدين، لا من حيث المضمون ولا من حيث الاساليب.. ورغم الدعم الهائل المباشر وغير المباشر الذي تلقاه التنظيمان، الا ان الامور انقلبت علىيهما وعلى من اراد استثمار مشروعهما. فالقضاء على "الشيعة" او "ايران" او "حزب الله" او "العلويين" ليس مشروعاً ممكناً، تماماً كما ان القضاء على "السنة" او "الكرد" ليس مشروعاً ممكناً ايضاً. على العكس، فان اي مشروع من هذا القبيل سيقوي ويصلب المستهدَف، ليعود المشروع ويرتد على المستهدِف. وهو ما ظهر بالمقاومة الشجاعة والشرسة العراقية والسورية والتي اصبحت لها اثقال اقليمية وعالمية باتت قادرة على دحر التنظيمين في العراق والشام، او على الاقل تطويقهما والتقليل من ضررهما.
قد يكون هناك من شجع ولادة "داعش" و"النصرة" و"القاعدة" و"الارهاب"، او جاءت ظروف شجعت ذلك، لكنها في المحصلة تشكيلات ومجتمعات تستمد غذائها وحيويتها من اصول خاصة وفكر متكامل ابعد بكثير من معادلات مكان وزمان محددين بالذات. فنحن امام ظاهرة لها تاريخها وعمقها الخاص واستقلاليتها واهدافها التي تختلف عن الجميع، حتى وان التقت بالبعض مرحلياً او جزئياً. فالارهاب يكفر الجميع، ولا يقبل الا من يواليه.. وهو لا يقبل التعايش، وستقوده طبيعته للاصطدام عاجلاً او اجلاً مع الجميع، حتى مع من تعامل معه وشجعه. وهذا بالضبط ما حصل ويحصل.. فعندما حقق نجاحات في العراق وسوريا واماكن اخرى، فانه تصرف وفق طبيعته تلك التي لم تختلف عندما انطلق، ولن تختلف، والا سيحفر قبره بيده.. فهذه الطبيعة هي مصدر قوته، وهي ايضاً مصدر ضعفه ومقتله. فبشاعة الاسلوب هي سلاح الارهاب، وهي لم ولن تختلف.. كل ما في الامر، ان العالم كان اقل مبالاة عندما كانت تصيب اخرين، ويفسرها بصراعات شيعية وسنية، او صراعات مناطقية، بينما الحقيقة هي الارهاب اعم من ذلك بكثير. وكلما اوغل الارهاب في جرائمه، ووسع دائرة عدوانه، كلما ازداد الوعي حوله، وازدادت الاجراءات الجدية والشكلية، لمواجهته ولتوحيد الصفوف للقضاء عليه.
لذلك عندما تغير "داعش" اسمها الى "الدولة الاسلامية" فلانها بدأت تخسر في الارض والسكان في العراق، وانتقلت من الهجوم والتقدم تماماً الى الدفاع والتراجع اساساً.. وعندما تغير "جبهة النصرة" اسمها الى "فتح الشام"، وتنشر علناً انفكاكها عن "القاعدة"، وتغير قواعد عملها لتحصل على مقبولية "دولية"، يمكن ان تخرجها من معادلة الارهاب في اطار المعادلة السورية الحربية او التفاوضية.. اذا فكر التنظيمان ان هذا مجرد تغيير اسم ومجرد تكتيكات، فانه سيمثل بالنسبة لـ "داعش" و"جبهة النصرة"، فشلاً استراتيجياً، سيظهر على مقاتليها وتوجهاتها والذي سيخترقها بانشقاقات وعملية تراجع، شاءت ام ابت. فلدينا من التجارب العالمية والتاريخية الكثير من المنظمات التي ادعت تغيير طبيعتها ونواياها تكتيكياً، فلم تخفِ لا ازماتها ولا انقساماتها، ولم تخدع سوى نفسها، وانتهت بتغييرات استراتيجية اصابتها بطعنات قاتلة في جوهر مشروعها.
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha