هناك من يتعمد تعميم الفوضى والتجهيل.. اما بحسن نية، او جهلاً، او للتمويه، او لاغراض خاصة تخريبية. لن ينفع شيئاً الكلام عن مفسدين ان لم نتكلم عن المنظومة الفاسدة التي تنتجهم وتضاعف انتاجهم وتحميهم وتبعد الانظار عنهم. لذلك فشلت كل الجهود المخلصة والهامشية، وستفشل مستقبلاً عن معالجة الفساد ما لم نضرب شبكاته ومصالحه وننشف منابعه ومصادره. ولا يصعب البرهان انه لا يخلو في الدولة نشاط سواء اكان نفطياً، تربوياً، امنياً، صحياً، عمرانياً، ادارياً، مالياً، رياضياً، قضائياً، زراعياً، صناعياً، خدمياً، الخ، ان لم تتربى وتتأسس حوله مصالح ودوائر و"مافيات" و"اقطاعات" مستفيدة داخل المؤسسات وخارجها، داخل البلاد وخارجها، من الصغار والكبار على حد سواء، ومن "اسلاميين" و"علمانيين".. و"سياسيين" و"تكنوقراط" و"مستقلين"، ومن "النظام السابق" ومن "الجديد"، ومن كل المكونات.. فهي تدربت خلال عقود، او تعلمت دروسها بسرعة، وتميز بين الغث والسمين، وتفهم القوانين والتعليمات السائدة، وتعرف الرجال والنساء، وتجيد تحريك المعاملات، واين تموضع نفسها، وكيف تحمي ملفاتها، وتكيد لغيرها، وفق النظم الجارية او الجديدة.. واذا ما طُرحت فكرة اصلاحية تمس مصالحها فهي تجيد التحرك، باسم "الصالح العام" و"الفقراء" و"محاربة الفساد". اعيد اليوم نشر افتتاحية بنصها كتبتها في 15/2/2011 بعنوان "الاقطاعات الادارية" حاولت فيها توصيف اوضاعنا –ولو تلميحاً اعتماداً على وعي القارىء- عسى ان تساعدنا في فهم افضل لموضوعات الفساد:
["هل ان نظامنا هو نظام ديمقراطي ام دكتاتوري؟ اشتراكي ام رأسمالي؟ اسلامي ام علماني؟
انه ليس بنظام اسلامي او علماني. فمرجعيات النظام الحالي ليست دينية او وضعية، رغم ان اسلاميين وعلمانيين يتربعون اليوم في اعلى مواقع الدولة والاحزاب الحاكمة. انه ليس بنظام رأسمالي او اشتراكي لان جوهر الرأسمالية هو الربح.. انه الفرد وملكيته وحقه الذي عبره تتحقق المنفعة العامة وحقوقها. كما ان جوهر الاشتراكية هو البحث عن المنفعة العامة او الاجتماعية التي عبرها تتحقق المصالح الفردية. وهو ايضاً ليس بنظام ديمقراطي او دكتاتوري. فالاول لا يعني مجرد الانتخابات، بل هو حكم المؤسسات الدستورية والقانونية حقاً وحقيقة.. اما الثاني فيعني غياب الرأي الاخر وفرض سلطة الفرد المطلقة..
نظامنا يعتمد في عيشه على موارد سهلة تاتيه من النفط.. وينظم حياته باستهلاك الكثير من القيم والعادات التي لا حساب ولا مسؤوليات فيها.. لتغيب المسؤولية والدافع الفردي والجماعي للعمل وانتاج القيم المادية والمعنوية وتجديدها.
فهو قد يفرز حاكماً مستبداً.. او حكاماً يتصارعون الريوع والقرارات. انه اليوم اقطاعات ادارية استقرت في شبكات ودوائر لتسود وتخترق كل المجالات العليا والدنيا في الدولة وفي المجتمع على حد سواء.
ففي اشكال الاستغلال الريعي او الربحي يبقى ذلك الدافع المحفز للنفوس وللقيم والتقاليد للحفاظ على ارض نأكل منها او ماء لا حياة بدونه.. ولضرورة مدارس ومستشفيات وغيرها.. اما في حالتنا اليوم، فيكاد ان ينقطع ذلك الحبل السري والعفوي بيننا كافراد وكجماعة وبين سنن الحياة ودوافعها وغرائزها وما اختزنته وراكمته وجددته من وعي وخبرة.
ارجعوا للشرائع السماوية والمدنية.. حقوق الملكية والمكاسب باشكالها.. حق الانسان والام والمرأة والنشىء... حق الارض والحيوان والطبيعة.. حق الحياة والعمل والتعلم والمريض والشيخوخة والمحتاج وغيرها. انها حقوق حقيقة تتحرك دوافعها بالارادة الحرة الجادة والفطرة المحفزة.. حقوق معروف تماماً اصحابها ومستحقيها واسهمها وصناديقها وحماياتها.. والاهم مقدساتها وحرماتها وتقاليدها، لتبقى مصونة، راسخة في القناعات والممارسات.
ان جوهر اي نظام هو نظام الحقوق والدوافع والمسؤوليات والقيم الذي ضاع في عراقنا وسط فوضى التشريعات التي تولد ميتة، بعد ان قطعنا كل الخطوط الا خطوط النفط التي هي نعمة نهضت بها امم اخرى فحولناها الى نقمة نكتوي بها جميعاً. انها مسألة اولى يجب ان يقف عندها مجلس النواب. انها حقيقة ان لم يدركها رجال الدولة والاصلاح فاننا سنبقى نبني "ببترودولاراتنا" قصوراً من ورق. وسنستهلك من نِعم الله ومن اصولنا الموروثة، ولن نراكم مكاسب او معارف جديدة، بل سنورث اجيالنا القادمة مزيداً من الغش والفساد والفقر والجهل والتنازع والفوضى."]
عادل عبد المهدي
https://telegram.me/buratha