( مقالة منقولة عن شبكة الراصد الاخبارية للكاتب فايز شاهين )
لم تستطع قَدَمَي أخي الشيخ أبو صالح من حمله، انهارت قواه فدخل بسرعة إلى غرفة مكتبه المتواضع وبدأ بالبكاء كما الأطفال. أم صالح كذلك أصابها الخبر بالشلل الفكري، فانهارت باكية وأُغمي عليها من هول الفاجعة، تم نقلها على وجه السرعة إلى المستشفى وكانت في حالة يُرثى لها. أفاقت من إغماءتها وهي تقول: ولدي ولدي كيف رحلت وتركتني!صالح ولدٌ يتّقد ذكاءً، في عينيه ترى كم هو إنسان رائع، شاب لم يتجاوز التاسعة عشر عاماً من عمره، ومع ذلك فهو طالب مجد، حريص على التعلم والدراسة فتخرّج بمعدل أهّله للقبول في كلية الطب. قابلته بعد يومٍ واحد من دخوله كلية الطب، كان فرحاً بشكل غريب، بل كأنه مجنون من شدة شوقه لدراسة الطب. كثيراً ما قال لي: عمّي، أحب أن أُصبِح طبيب أطفال عندما أتخصص، هل تعتقد أن ذلك ممكناً؟ لماذا يا صالح تريد أن تكون طبيب أطفال؟ أجاب وعينه قاربت على البكاء، أحب الأطفال. أتذكر عندما كانت والدتي تشقى وتتعب معي وأنا صغير، وأبي يأخذني للمستشفى عندما أمرض، أتذكر الأطفال وهم يبكون باستمرار خوفاً من الطبيب أكثر من خوفهم من المرض، لا أريد أن أرى طفلاً باكياً. صالح لابد أن يكون طبيباً، فالطب يحتاج لإنسانيةً أكثر من أي شيء آخر، وصالح إنسان بكل معنى الكلمة وذكي، كان أبوه يناديه: الدكتور صالح.
كلما تذكّرت تلك الأيام والليالي كلما ازددت ألماً، فقد كان عزيزاً على قلبي وصديقاً قريباً من ولدي مساعد حفظه الله، فهما كانا في مرحلة عمرية واحدة، كانا يخرجان معاً باستمرار ويدرسان في مدرسة واحدة، لكن الموت فرّقهما. الموت أخذ منّا صالح، فبكيت عليه وبكى عليه ابن عمه والجميع، فكأن المصاب ضربنا قبل والديه، فهو الولد الوحيد لأبيه رزقه الله بعد سنوات طوال ولم ينجب غيره.
أبو صالح، ساعد الله أبو صالح، كان صالح أمله الوحيد، يخاف عليه من النسمة ويحلم به إنساناً "صالحاً" كاسمه، فما أن يعود من الكلية إلاّ واحتضنه بابتسامته العريضة منتظراً إياه للغداء معاً. لطالما راقبت الأم أبو صالح وكيف أنه لا يأكل غداءه إلاّ مع ابنه حتى لو تأخر إلى عند الغروب في الكلية. ذلك اليوم، لن أنساه أبداً ما حييت، اتصل بي أبو صالح يطلبني على وجه السرعة، ودون مقدّمات ذهبت وجلست معه. ما الخبر؟ أبو صالح قلق على صالح لأن اليوم الجمعة ولم يعد صالح من رحلته إلى جدة. ذهب صالح إلى جدة بعد أن استأذن أبوه، قال له سيذهب في عمرة مع بعض زملائه بكلية الطب. حتى مع شعور الأب بالرهبة حين أتت السيارة لتقل ابنه حيث رأى شابّين بثياب قصيرة ولُحى كثيفة، لكن لقناعته بسلوك ابنه وثقته فيه، لم يتردد في إعطاء صالح الضوء الأخضر للذهاب.
قبل أسبوع من سفر صالح، أصدر 26 شيخاً من السعودية بياناً بضرورة الجهاد ونصرة الشعب العراقي ضد الأمريكان، على رأس قائمة الشيوخ كان سلمان العودة. تزامن البيان مع قنوت ودعوات في المساجد لنصرة العراقيين في الفلوجة طوال شهر رمضان والدعوة بالدمار على اليهود والنصارى، الأمريكان خاصةً في مسجدنا الذي يؤمه الشيخ سلمان العودة. صالح "رحمه الله" كان يصلّي في مسجد الحي باستمرار، ولم يُبدي أي توجه فكري للانضمام للجماعات المتطرفة أو غيرها، لكن هذه المرة بدت عليه أعراض غريبة حاول أبوه سردها لي في اللقاء الذي جمعني به يوم الجمعة. "صالح تغيّر يا خوي، أنا خايف عليه، مادري ويش صار، خايف يكونوا المجرمين خذوه معهم للعراق". صدمتي كانت كبيرة، فأنا أرى صالح في المسجد باستمرار ولم ألاحظ أي تغير في تصرفاته، سوى بعض حالات الشرود، كنت أعلل ذلك بهموم الدراسة وصعوبتها. رأيته يتحدث ذات مرة مع إمام المسجد، الشيخ العودة وكأنه يعرفه، اعتقدت بأن الموضوع مصادفة وله علاقة بسؤال ديني فلم أعر الموضوع اهتماماً. قال أبو صالح، لقد رأيت اثنين من رفاقه في السيارة، وهما يلبسان ثياباً قصيرة ووجهيهما قد غطاهما شعر اللحية الكثيف.
طمأنت أخي أبو صالح بأن الكثير من الشباب هكذا، ولا داعي للقلق، وعدت للبيت، لكن ساورني شك بعد تلك الليلة فلم أنم. ما أن أصبح يوم السبت حتى رفعت سمّاعة الهاتف وتحدثت مع أخي أبو صالح وسألته عن رفاق صالح إن كان يعرف أحدهم لنتصل به، لكن للأسف أبو صالح لم يكن يعرف أحداً منهم. مضى يوم السبت والأحد والقلق كبير بيننا، اتصلنا على الشرطة، سألنا كل من له علاقة به في الكلية دون فائدة.
توتر الوضع أكثر ولم يذق أبو صالح النوم، إلى أن أتى الخبر الفاجعة، مهاتفة من العراق لبيت أبو صالح "تبشّر أبو صالح باستشهاد صالح في الفلوجة في معركة مع الصليبيين". تغيّر لون وجهه ونزلت دمعة على خدّه حاول أن يخفيها، وتماسك قليلاً فقد كاد أن يسقط على الأرض من هول الخبر. لاحظت أم صالح ذلك، استحلفته بالله أن يقول لها إن كان هناك خبر عن صالح، قال لها: إنا لله وإنا إليه راجعون. صرخت أم صالح وسقطت مغشياً عليها. الحال في بيتنا لا يختلف كثيراً عما في بيت أخي، فالبكاء فيه قد علا والدموع انهمرت من كبيرنا وصغيرنا، فأصبح بيتنا وبيت أبو صالح مأتماً.
كلما نظرت في وجه ابني مساعد، تذكّرت صالح، وكلما نظرت في وجه أخي أبو صالح، رأيت صورة صالح فيه؛ أنين أخي أبو صالح يقطع نياط القلب، فلا أدري ماذا يمكن أن أفعله سوى الرضا بقضاء الله وقدره. في الوقت الذي وصلنا خبر مقتل صالح كان هناك خبر آخر وهو عن شيخ الحي، العودة الذي حاول المستحيل لمنع ابنه من الذهاب للعراق. قرّرت مواجهته وسؤاله عن صالح، فبعد صلاة المغرب توجّهت إليه وحاول الابتعاد عني وكأنه لم يرني. استوقفته وقبل أن يخرج المصلين، رفعت صوتي: أخوتي، انتظروا قليلاً، فقط دقائق معدودة، فلدي بعض الأسئلة للشيخ والفائدة بإذن الله للجميع. جلس المصلين وقمت بالتقاط الميكروفون وقلت متحدثاً للشيخ:
شيخنا، هل قمت باحتضان ابنك معاذ عندما عاد من البر بصحبة رفيقيه؟هل خفت عليه من الضياع في البر دون اتصال أو ماء أو غذاء؟هل تحب ابنك يا شيخ؟ هل تحب له الخير؟يا شيخ سلمان، ترى أبو صالح ليس له إلاّ صالح؟هل يرضيك يا شيخ أن يكون ابنك في العراق يقاتل "الكفار الصليبيين الأمريكان"؟لماذا لم ترسل معاذ لقتال "أعداء الإسلام" في العراق؟لماذا لم يكن معاذ شهيداً في العراق، فقط صالح وأمثال صالح؟
صالح لم تودّعه أمه ولا تعلم أي أرضٍ ضمته! صالح كان مواطناً محباً للخير، فقده الوطن وفقده أبوه، وفقدت أم صالح ولدها الوحيد. صالح كان مواطناً يريد خدمة وطنه، يريد أن يكون طبيب أطفال ليعالج أطفالك وأطفال الآخرين. صالح يعرفه كل من في المسجد باستقامته والتزامه.
يا شيخ أنت قتلت صالح فغرّرت به وذهب للعراق فقُتِل، بينما أبقيت ابنك معاذ في بيتك. ابنك معاذ كان في نزهة برية مع أصحابه في الوقت الذي تمزّقت فيه جثة صالح في الفلّوجة.أنت يا شيخ منافق، بل لست شيخاً، أنت مجرم يجب معاقبته.
أنت داعية للشر وللإرهاب، أنت مثلك مثل بقية الإرهابيين الذين فجّروا وقتلوا وسحلوا الجثث الآدمية في بلادنا. أنت وعصابة الـ 26 مجرماً يجب أن تُحاكموا. ابنك معك في بيتك وابننا صالح قد رحل بعد أن غَرّرت به أنت وأمثالك وكذبتم عليه فذهب ليلقى حتفه بينما أنت هنا تعيش في أمن ورخاء مع أبنائك. أبو صالح له ابن واحد وحيد، وأنت لديك خير من الله، فلم لا ترسل بعضهم إلى "الجهاد". صالح كان بيننا بوجهه الجميل وابتسامته وطيبته، صالح كان بيننا بأخلاقه الرفيعة والتزامه وحبّه الناس، صالح لم يكن يوماً خائناً لأهله ووطنه، أنت خائن يا شيخ.
انهمرت الدموع من عيون المصلّين، وقام الشيخ بسرعة وخرج دون أن ينطق بكلمة واحدة، فركب سيارته المرسيدس حيث كان السائق بانتظاره على الباب. أماّ عم صالح، فقد سقط في المسجد وهو يبكي بكاءً مراً. بعدها لم يُرى الشيخ في المسجد، وانتشر خبر مفاده أنّه في السجن مع بقية عصابة الستة والعشرون وأن التحقيق أفاد بأن العودة دعم تنظيم القاعدة في السعودية، وأن الفتاوى التي على موقعه بها رسائل خاصة لهم تحثّهم على القتال وتحث الناس على دعمهم وعدم التبليغ عنهم. تم الحكم على سلمان العودة بالسجن مدى الحياة لمسؤوليته عن مقتل العديد من الشباب وكذلك رجال الأمن والمواطنين.
https://telegram.me/buratha