( بقلم : طالب الوحيلي )
مهما تحقق خلال المرحلة الجديدة لما بعد سقوط النظام الصدامي، يظل ضئيلا قياسا لما يطمح ويرومه المواطن العراقي ،الذي انفصل تماما عن مظاهر الحضارة الإنسانية طيلة تلك الحقب من الزمن ،لاسيما وانه قد خرج من جوف كابوس مرعب جمع كل صفحات الجوع والخوف والتخلف ،فتقاذفته آفات مختلفة لم يجد فيها أي فسحة أمل او مجال لجذب أنفاسه بين معارك متواصلة يجد الجميع أنفسهم فيها أنهم مجرد وقود لنيرانها او قتلى على قائمة الانتظار ،وبين مسجونين او منفيين في وطنهم او مغيبين لا نتيجة لغيابهم سوى المقابر الجماعية او وريقات تدل على إعدامهم دون أدنى أساس قانوني ،وبين صمت مرعب لا يكاد فيه الفرد ان يهمس لأسرته عن امتعاضه من ظلم الطاغية ،فحتى الجدران لها آذان ،وويل لمن نبس ببنت شفة عن الحاكم وأفراد أسرته وقيادات حزبه ،فمحرم في ذلك العراق كل ما لم يبيحه الطاغية صدام وأزلامه ،ولا دين الا دينه ولا مذهب الا مذهبه ولا قومية الا قوميته ولا عيد الا عيده ولا أحزان الا أحزانه ،فهو فرعون عصره دون ان ينازعه حتى فرعون ،وقد اعلن العراقيون رفضهم لهذا الصنم الا من تبلدت حواسه وانصاع للذل والعبودية رغبة في عيش رغيد او في الاستحواذ على فتات موائد مغتصبة من أفواه الجياع ،وألئك هم عبدة الطاغوت الذين جندوا أنفسهم لخدمته وتنفيذ سياساته الدموية، وأهمها ان يكونوا وسائل وأدوات إذلال وقهر الأغلبية ،ولعل عودة ذاكرتنا الى الوراء قليلا تضعنا امام سؤال ليس سهل الإجابة بكل تأكيد وهو اين ذهبت تلك الزمر الحزبية التي كانت ترابط في أحيائنا الشعبية وتطرق أبوابنا كل حين، لفرض التطوع في صفوف ما يسمى بالجيش الشعبي والقدس وفدائيي الطاغية وغيرها من أسماء ،وأين ذهب وكلاء الأمن الذين كانوا يتصيدون الأبرياء لغرض إيصالهم الى دهاليز الأمن او المخابرات او الشعبة الخامسة ،واين ذهب ضباط المخابرات والأمن العامة و الخاص وغيرهم ،وأين انتهى المطاف بمنظري وإعلاميي ذلك النظام الذين جعلوا من ( الشط مرق والزور ملاعق) وحولوا كل الأكاذيب الى عوالم خيالية خوت بهبة ريح ،واين ..واين والسؤال يكبر كثيرا اذا ما نظرنا الى اقرب شارع او مؤسسة او وسيلة إعلام ،فليس غريبا ان يؤسس بعضهم صحيفة مدعمة من دولة أجنبية وفضائية تقبع في كنف امارة خليجية يتعمد فيها التعبير عن خيبته في انهيار مملكة الرذيلة التي انغمر فيها بعد ان فقد شرفه تحت وطئ الطاغية وابنه المقبور ،وتلك قصة يعرفها الإعلاميون وغيرهم ،ليجسد من استمطارهم كل الأكاذيب ويلاحق ابسط المظاهر متخذا منها جرما وجريرة ويبشر بحلول المذابح في العراق وكان الدم العراقي مجرد اعلان لانهيار الحلم الجديد ..وليس غريب ان يشكل احد ايتام ذلك الطاغية حزبا يمثل ابناء المقابر الجماعية وهو المعروف بكتاباته التخصصية عن وصايا ذلك الصنم البليدة التي كانت مثار سخريتنا كلما طالعناها ،وقد رأيناه وهو يتحول الى نجم في الفضائيات الموبوءة بالحقد الطائفي العنصري ،فلمن يسوق تجارته ياترى ؟!
واذ أردنا ان نبحث عن تلك الأسماء التي استمدت وجودها من ذلك العهد فاننا نقع في المحذور لأننا سوف نصل الى اسماء لها شأنها في الخريطة السياسية وبرغم ذلك فإنها باتت مخلصة لعهدها بالرغم من حصولها على امتيازات يستحيل ان تصل اليها في ذلك العهد مهما قدمت او أخرت لذلك النظام ،مع ذلك فإننا نجدها تعمل بانقياد أعمى لأجل إحباط العملية السياسية بعد ان تمكنت من الوصول الى مكامن الخطر فيها ..
جميع هؤلاء يشكلون اليوم الجبهة المضادة لتطلعات الشعب العراقي في الحصول على حقوقه المهضومة وأهمها حقه في الحياة والامن الذي تحول الى عملة نادرة بسبب محاولات ايتام الطاغية وبقايا النظام السابق فرض أجندة القتل والفساد والخراب الذي يرمي بإثقاله على عاتق المواطن الذي خرج يوما باتجاه صناديق الاقتراع لاختيار مصيره الذي ينتظره ،فالدستور الدائم هو أساس لتقرير المصير وانتخاب الحكومة على أساس الاستحقاق الدستوري والانتخابي هو الأداة الواقعية لبناء وترصين دولته المثالية بديمقراطيتها الشفافة الحقيقية ،وباخلاصها المنقطع النظير كونها قد ولدت من رحم معاناته وآلامه وآماله ،ومشروعه الإنساني المضمخ بالدماء الطاهرة وبامتدادات التبريك المرجعي ،لكن مخالب الرمح المحدد ذو الثلاث شعب الذي أصاب كبد الحسين يوم عاشوراء ،نفسها اليوم تمتد الى كبد العراق فاذا ما انتزعت منه أخرجت معا من ذلك الكبد الكثير ،لذا فان مصير المعادلة الظالمة التي حكمت واقعنا السياسي والاجتماعي مازال عالق بين أمرين ،اما الخلاص منها نهائيا بفعل شعبي مطلق ينسجم مع النزوع الحقيقي لبعض القوى السياسية المتصدية والباحثة بجد عن مخرج للأمة العراقية بعد ان آرقها الواقع المتردي لمقتضيات الحلم العراقي ،او الركون الى الإذعان امام المؤامرة المنتظمة التي تقودها المنظومة السياسية لبقايا الزمن المتردي الممتد من العهد الملكي وحتى سقوط آخر سلاطين الجور ان كنا نرجوا عدم عودته الى زمننا الحالي .
قد يكون محقا البعض منا حين ينتقد بحزن الإخفاق الحكومي ،لكن حين يرجع الى نفسه يعلم من هو وراء هذا الإخفاق والمزايدات السياسية المحيطة به ،لكن ذلك لا يبرر للقوى ذات الصلة تراخيها في الحفاظ عن اول حكومة عراقية تمثل الشعب وتعتبر نفسها خادمة له لا نه هو سبب انتخابها ،لان تلك مسؤولية سوف تدون بمداد من دم في صفحات التاريخ الذي لا يرحم من أفرط بمصير شعبه ..
https://telegram.me/buratha