المقالات

حروب "ناعمة" تغذّي الإرهاب!

1312 03:32:38 2015-07-16

تستحوذ مجريات الحرب الضروس المستعرة ضد الارهاب التكفيري على واجهة المشهد العراقي، المثقل بالتعقيدات والتحديات، ولكن بموازاة ذلك تُشّن حروب سبقت استفحال الإرهاب التكفيري، وربما تبقى بعضها مستعرة حتى بعد اندحار هذا الارهاب، مثلما سبقته!

ان الحروب الأخطر هي تلك الحروب التي لا تستخدم فيها الأسلحة التقليدية، فلا تسمع أزيز الرصاص، ولا دوّي المدافع، ولا هدير المقاتلات، ولا ترى مقاتليها بالبزة العسكرية، مدججين بالسلاح؛ بل ربما يرتدي عناصرها بدلات أنيقة، ويتعطرون بأفخر ماركات العطور الفرنسية، ويجلسون على كراسيهم الوثيرة في مكاتبهم المكيفة، ويحمل بعضهم ألقاباً رسمية، أو يتسنّمون مناصب حسّاسة!

انها -ببساطة- حروب قائمة تفتك بالوطن والمواطن، ولها أسلحتها الخاصة، و"قوانينها"، وأجنداتها، وخططها، وغرف عملياتها، واستراتيجياتها، وحلفائها، وميزانياتها، وشبكاتها، وكتائبها! وإن لم يجد المرء تسميات لها في قواميس السياسة والحروب، فإن المواطن/ الضحية الذي يتحرك في دائرة استهدافها، والمنكوب جرّاء أنشطتها، قادر على وضع التسميات الصائبة، وعلى تشخيصها، وفي أغلب الأحيان التأشير على من يقودها، لأنها كما يُطلق عليها "حروب تحت الجلد"! ولكن في ذات الوقت، هذا المواطن تراه عاجزاً عن إيقاف هذه الحروب وإبطال مفاعيلها، أو هزيمة مرتزقتها، لأن هؤلاء تكالبوا عليه، وجرّدوه عبر سلسلة عمليات معقدة من أي سلاح دفاعي، بل وأجبرته هذه الحروب على التعايش مع "الأمر الواقع" الذي تتمرس فيه، وهنا مكمن الخطورة، بأن يصبح العدو "واقعاً" معاشاً ومقبولاً، وخبزاً يومياً ساماً، و"عَدُوّاً لَهُ ما من صَداقَتِهِ بُدُّ" كما قال المتنبي!

لا غرو ان الحروب "الناعمة" التي استوطنت العراق بعد 2003 (وإن كان بعضها مُرحّلاً قبل هذا التاريخ) تتعاضد فيها الجهود معاً لتفتك بالعراقيين بضراوة، وأشدها تدميراً حرب الفساد السياسي (وفرعها الفساد الإداري)، المتحصنة بالمحاصصة اللعينة، التي أهالت بدورها التراب على الانتماء الوطني، واستبدلته بالصفقات واللّوبيات، وأوراق الضغط وأوراق الضدّ في العملية السياسية، وكانت شرّ مُوطّئ لمفاسد جمة، كما أسست لحروب جانبية، منها من تزعمتها غيلان المحسوبية، التي قدّمت الجهلة والأفاقين وسماسرة الأوطان، وأخّرت الأكفاء والخبراء والمؤهلين الوطنيين. كما ورفدت تلك الحرب توءمها، أي الحرب التي يشنها المال السياسي، وقد فتكت (هذه الحرب) بالتجربة الديموقراطية وأنهكتها، وحوّلت أية انتخابات الى بورصة لمضاربات المنافسين، وشراء الذمم، وشراء الأصوات، كما استخدم المال السياسي كسلاح ابتزاز، وثقل يرجح كفة من يملكونه أو يديرونه أو يسجدون له، مهما كان ماضيهم المتفحم والمخزي، حتى لو استدعى الأمر أن يتفاخر "زعيم سياسي وطني" بأنه نسّق جهاراً مع 14 مخابرات أجنبية قبل وإبان التغيير في 2003 "من أجل مصلحة العراق"! وتتواضع تسريبات "ويكيليكس" الأخيرة أمام هذا الاعتراف، حينما بيّنت التسريبات تنسيق المشار اليه مع المخابرات السعودية، ومعه لفيف كبير من أسماء تشاطره "الهاجس الوطني" مازالت تسرح وتمرح في العملية السياسية، وهي من أقطاب الحروب "الناعمة" التي نحن بصددها! وتتواتر الأدلة يوماً بعد آخر بأن هذه الحروب قد مهدّت الأرضية لاستفحال أنشطة المخابرات الأجنبية في العراق، التي لديها أجنداتها الخاصة بالضدّ من العملية الديموقراطية المنشودة، حيث زخرت اعترافات المدانين بقضايا الارهاب وملفات الفساد بالكثير من الدلائل والقرائن والإثباتات.

تفرعت من تلك الحروب "الناعمة" الحرب الإعلامية، التي تتزعمها مراكز قوى متحصنة داخلياً بالمحاصصة، ويغذيها المال السياسي، وتتقاطع أو تنسق مع دوائر إقليمية ودولية، تساهم في دعم هذه الحرب، مستفيدة من سقف الحريات المتاحة، لتمارس دورها التخريبي "الناعم" جداً، فتضخم السلبيات وتغطي على الايجابيات، وتطمس الحقائق، وتحرف البوصلة التي تؤشر على العدو الحقيقي، وتخلق أعداءً وهميين، وتتبنى ضخ الشحن الطائفي، وتمارس بخبث أساليب تهدف الى تفتيت الوئام الوطني، واتهام القوات المضحية بأبشع التهم والأباطيل (الحشد الشعبي مثالاً للاستهداف)، وتسهم في حملات منظمة لإسقاط ساسة وطنيين، وتجهد في الفتّ في عضد القوات المسلحة وتشكيلاتها المقاتلة، كما تسهم بمواربة في رفد وتعزيز الحرب النفسية الموجهة ضد العراقيين، والتي تديرها مباشرة دوائر استخبارية لا تريد الخير للعراق.

بموازاة تلك الحروب، تطل برأسها الدميم حرباً "ناعمة" أخرى، لها تماس بالجانب الاقتصادي، تهدف الى تحويل العراق سوبر مستهلِك، بعدما كان ينتج الكثير مما يحتاجه، أما اليوم، قد تحول الى محفظة نقود لشراء كل مستورد صغر أو عظم، ولا يمكنه الاستغناء عن هذه الحالة المزرية، التي لا يلتفت الى خطورتها الكثيرون، بحجة ان "كل شيء متوفر"! بينما الواقع يشير الى مخاطر كامنة، يمكنها أن تتحول الى كوابيس تدريجياً. أما لماذا يتم وصم هذا الواقع بأنه نتاج حرب "ناعمة"؟ الجواب؛ هو ان هناك دوائر لها مصالح بعرقلة المشاريع الحقيقية والخطط التنموية الطموحة، والتسريع ببناء البنى التحتية المواكبة لمواصفات الدول الناشدة للنهوض باقتصادها، وحتى يبقى العراق بلداً يتقوّت وبات لا يستغني عن استيراد كل شيء، بلد غير مُنتج، ولا يصدّر سوى النفط! وبالتجربة؛ أفضى هذا الواقع الى تدمير الصناعات الوطنية وتهميشها، كما حوّل قطّاعات واسعة من الحرفيين الى جيش من العاطلين أو ممن يدخلون في عداد جمهور "البطالة المقنعة"! حيث تضاءلت اثر ذلك فرص العمل، وهذا زرع اليأس والإحباط في نفوس الشباب الذين يأملون -مثلاً- بعد التخرج "الظفر" بفرصة عمل. ولا شك فإن الإرهاب التكفيري يتربص بهذه الفئة خاصة، ويترصد انسداد الأفق والإحباط الذي يلازم أولئك، مما يمهد الأرضية الخصبة لـ"استثمار" البعض منهم، وتوجيه زخم إحباطهم نحو تنفيذ مآرب الارهاب الإجرامية، والواقع يفصح عن ذلك بوضوح!

وفي أجواء تلك الحرب الاقتصادية "الناعمة"، تفرعت قبل عام حرباً "ناعمة" أخرى، تمثلت في حرب تخفيض أسعار النفط، التي قادتها السعودية علناً، وتحديداً منذ دخول العراق في حرب شاملة ضد الارهاب التكفيري المدعوم أساساً من الحواضن الوهابية، في السعودية وباقي دول الخليج. فتخفيض السعار يهدف الى إنهاك ميزانية العراق، وتُعد -كحرب- جزءاً من مساعي الإجهاز على خطط الحكومة العراقية بتمويل الحرب القائمة ضد الارهاب، وبالتالي تصب هذه المساعي في تأخير حسم الحرب لصالح العراق، وإعطاء فرصة واقعية للإرهاب بأن يوسع رقعته!

يمكن القول بأن تلك الحروب "الناعمة" مجتمعة قد مهّدت وغذّت -وما زالت- الإرهاب الضارب بوحشية وهمجية غير مسبوقة، لأنها (الحروب) سعت الى إنهاك الجبهة الداخلية العراقية وخلخلتها ومحاصرتها، اضافة الى إغراق المواطن بسيل من المعضلات الحياتية والاجتماعية والسياسية، وإغلاق أي أفق يهدف الى الخروج من النفق المظلم، وإضعاف الانتماء الوطني. كما هدفت الى ضرب السلم الأهلي بتصعيد حالات الاحتقان والطرق عليها، ليتحول الوطن الى لقمة سائغة لوحش الارهاب التكفيري، الذي يتغذى على "مائدة" هذا الواقع، حتى وصل الأمر الى مساندة علنية من نواب المحاصصة وباقي زملائهم المدسوسين في العملية السياسية لحواضن و"ساحات اعتصام" الارهاب.

لذا، لا مناص من معاملة تلك الحروب "الناعمة" باعتبارها ظهير حقيقي وتوءم عملي للإرهاب التكفيري، وأي تراخٍ في محاربتها وتعريتها، يصب في ضخ الحياة لهذا الارهاب، وإدامة تناسله!

ان زخم "حالة الحرب" التي يعيشها العراق اليوم، يمنح الفرصة الملائمة (للشرفاء والمخلصين في مراكز القرار والسلطة، مدعومين بالمظلومين والمضحين) لكشف الغطاء عن تلك الحروب "الناعمة"، واعتبار من يقف وراءها يشكلون فيالق (تحت الجلد) تنتمي للإرهاب عملياً، وتفتك بالعراق والعراقيين، كما يفعل داعش ونظائره، والتعامل معها وفق هذا التوجه، وإلاّ سنضيّع فرصة ثمينة لن تُمنح ربما ثانية، وحينها نردد "ولاتَ ساعةَ مَنْدَم"!

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
المقالات لا تعبر بالضرورة عن رأي الموقع
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حيدر الاعرجي : دوله رئيس الوزراء المحترم معالي سيد وزير التعليم العالي المحترم يرجى التفضل بالموافقه على شمول الطلبه السادس ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
سهام جاسم حاتم : احسنتم..... الحسين بن علي بن أبي طالب عليهما السلام.جسد اعلى القيم الانسانية. لكل الطوائف ومختلف الاقوام سواء ...
الموضوع :
الحسين في قلب المسيح
Muna : بارك الله فيكم ...احسنتم النشر ...
الموضوع :
للامام علي (ع) اربع حروب في زمن خلافته
الحاج سلمان : هذه الفلتة الذي ذكرها الحاكم الثاني بعد ما قضى نبي الرحمة (ص) أعيدت لمصطفى إبن عبد اللطيف ...
الموضوع :
رسالة الى رئيس الوزراءالسابق ( الشعبوي) مصطفى الكاظمي
فاديه البعاج : اللهم صلي على محمد وال محمد يارب بحق موسى ابن جعفر ان تسهل لاولادي دراستهم ونجاح ابني ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
محمد الخالدي : الحمد لله على سلامة جميع الركاب وطاقم الطائرة من طيارين ومضيفين ، والشكر والتقدير الى الطواقم الجوية ...
الموضوع :
وزير النقل يثني على سرعة التعاطي مع الهبوط الاضطراري لطائرة قطرية في مطار البصرة
Maher : وياريت هذا الجسر يكون طريق الزوار ايضا بأيام المناسبات الدينية لان ديسدون شارع المشاتل من البداية للنهاية ...
الموضوع :
أمانة بغداد: إنشاء أكبر مجسر ببغداد في منطقة الأعظمية
ساهر اليمني : الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ ...
الموضوع :
السوداني : عاشوراء صارت جزءا من مفهومنا عن مواجهة الحق للباطل
هيثم العبادي : السلام عليكم احسنتم على هذه القصيدة هل تسمح بقرائتها ...
الموضوع :
قصيدة الغوث والامان = يا صاحب الزمان
فيسبوك