بقلم: فلاح الراشد
ذكر شهود عيان كانوا قد حظروا داخل العتبة أثناء الحصار الظالم الذي فرضته قوى الضلال حول الحرمين الشريفين، أنه وبعد الخذلان الذي لقيه فوج حماية الحرمين الشريفين وحرسات العتبة من القوى الأمنية في كربلاء، جاءت الأوامر لقوة حماية الحرمين بالإنسحاب إلى داخل الحرم الحسيني الشريف بعد يومين من الاعتداءات الصارخة التي تعرضت إليها العتبات وزوارها، وعاثت من خلالها قوى الضلال بالممتلكات العامة والخاصة فسادا، وازهقت أرواح بعض الزائرين والمنتسبين وقذفت في قلوب البقية الرعب مستغلة الرأفة الإسلامية التي تتمتع بها القوى المدافعة عن العتبات المقدسة.
بقي جميع المنتسبين وجمع من الزوار الكرام يلوذون بالحرم الآمن ويستقبلون رصاص الغدر بقوة الصبر والإيمان، ذكّرنا موقفهم البطولي هذا بتصدي أبي ثمامة الصيداوي سهام البغي الأموي بأن جعل من نفسه درعا واقيا للإمام الحسين عليه السلام عندما كانوا يؤدون صلاة الظهر في يوم عاشوراء، وبعد انتهاء الصلاة أصبح جسده كالقنفذ من كثرة السهام النابتة على جسده الشريف وقاء لإمامه المفدى وما تبقى من أهل بيته لأداء فريضتي الصلاة والجهاد، وكان فيه رمق أخير وقبل أن يسقط على الأرض شهيدا، تمتم لمولاه "هل وفيت يابن رسول الله فأجابه الإمام نعم أنت أمامي في الجنة".
فخر ليس قبله وبعده فخر ووسام عز ورفعة وشموخ أن يدافع الإنسان عن ناموس العصر ومخدوم الملائكة وسيد شباب أهل الجنة وريحانة الرسول وقرة عين البتول ذلك الدفاع المستميت، وكل المنتسبين الذين كانوا داخل الحرم الشريف كان يراودهم نفس الشعور الذي انتاب مجنون الحسين عليه السلام عابس بن شبيب الشاكري والفدائي الذائذ عن حرم الرسول أبو ثمامة الصيداوي، وجميع أهل بيته وأصحابه الأوفياء الذين قال الإمام بشأنهم "لا أعلم أصحابا أوفى من أصحابي ولا أهل بيت أبر من أهل بيتي".
كيف لا يكون المنتسبون يتحلون بتلك المعنويات وهم قد أشربوا في قلوبهم وعقولهم حب الحسين عليه السلام؟! فأخذ الواحد منهم يبري لصاحبه الذمة استعدادا للشهادة، حيث أن الكل كان يتوقع اقتحام الحرم الشريف من قبل الأشرار في أية لحظة، وارتكاب نفس الجرائم التي اقترفتها العصابات المقنعة خارج الحرم من حرق وتدمير وقتل وسرقة وترويع - ارتكابها داخل الحرم، بل التوقعات كانت تشير إلى أن المجرمين كانوا يرومون تنفيذ مخططات علماء السوء في السعودية من تفجير الضريح والقبة والمنائر التي يعدّونها مظاهر الشرك في العالم الإسلامي وأطلقوا العنان لأوباشهم بتنفيذ تلك المهمة القذرة!!!
وبقي الحال على ما هو عليه من تأهب كامل للدفاع عن شرف العالم والإنسانية وقبلة الإباء والكرامة العالمية الإمام الخالد الحسين بن علي عليه السلام، وبقيت القلوب معلقة بين النصر والرجاء والشهادة، وتفاعلت تلك المعطيات في القلوب الولهى مفجرة ما فيها من ينابيع المودة والإيمان والشجاعة والفضيلة التي اكتسبوها من ملهم الثوار صاحب الذكرى والمناسبة.
ولا زالت هواجس النصر أو الشهادة تراود المرابطين في الحرم الحسيني الشريف من عصر يوم الزيارة إلى وصول طلائع الجيش العراقي الساعة العاشرة ليلا، عشر ساعات متواصلة وهزيز الرصاص وطنين القاذفات وزعيق البيكيسيات تصك الآذان وهي هدية عصابات البغي والضلال إلى زوار العتبات بمناسبة المولد المهدوي الشريف، وأن الأوباش ظلوا يطلقون جام حقدهم وغيضهم على الزوار والعتبات بلا انقطاع، وأصابوا بذلك الجدران الخارجية والداخلية ببعض التصدعات وكذلك منارة الساعة والمنارة الشرقية لم تسلم من طيشهم وجهالتهم. وأهم من ذلك لا أحد ينسى ترويع الزوار من النساء والأطفال والشيوخ هربا من طيش رصاص وقاذفات القتلة المردة، فتراهم وعلى مدى يومين مذعورين مشردين هائمين على وجوههم في الأزقة والطرقات والأسواق، علهم يلجأون إلى مكان آمن يقيهم من شدة القصف العشوائي الذي كان ينطلق من قوى الشر والعدوان تجاه حرم الرسول ومن يلوذ به، ذكّرنا هذا الموقف بفرار بنات رسول الله من الخيام بعد أن أضرم الأعداء فيها النار.
المشاعر كانت ملتهبة والمعنويات عالية والإيمان بالنصر على البغاة عظيما، وأخيرا رد الله سبحانه تعالى كيد المجرمين إلى نحورهم، وكادت جلالة العتبات وعظمتها وشموخها أن تنقض على الأشرار قبل أن ينقض عليهم الجيش العراقي، ولاذوا بالفرار الذريع ولاذت معهم الفتنة الكبرى التي كانوا يضمروها في قلوبهم المريضة، ووقى الله سبحانه العتبات المقدسة من شر الأشرار، وشاء لوليه أن يبقى شامخا رغم أنوف الحاقدين، وبقيت كربلاء مصونة بحماية أهلها المخلصين، وها هي قد استردت عافيتها وهي عزم واصرار على المضي في درب العطاء والتضحية والتقدم والقيم والأخلاق.
والأمة التي في قلبها حب الحسين هي أمة باقية لا تموت وهي خالدة بخلود القيم التي يحملها صاحب البقعة المباركة، والشهداء الذين وقعوا ضحية الهجمة الجاهلية الحاقدة في الزيارة الشعبانية الأخيرة هم أحياء عند ربهم يرزقون، وطالما قدم الشهداء أرواحهم والجرحى حملوا جراحاتهم على الأكف يقدمونها قربانا لله في سبيل القيم والأهداف العظيمة التي ضحى من أجلها الإمام الحسين عليه السلام بالغالي والنفيس.
https://telegram.me/buratha