( بقلم : عبد الرزاق السويراوي )
إتفق أهل الحكمة على أن أشرف العلوم , هي العلوم الإلهية , وهذه المرتبة من الشرف , إنّما جاءت لإعتبارات معينة وعديدة , منها أنّ هذه العلوم تأخذ بيد الإنسان إذا ما تيسّر له الحصول ولو بقدرٍ ما , على بعض هذه العلوم , بحيث تضعه على الطريق التي أراد الله سبحانه وتعالى من هذا الإنسان , أنّ يسلكها , والواقع أنّ هذه العلوم , هي بمثابة مشاعل نورانية دائمة التوهج , لتبدّد الظلمات المحيطة بهذا الإنسان , الذي شاء الباري عزّ وجل , أنْ يسْتخْلفه في الأرض . غير أنّ هذه العلوم الإلهية من السعة والشمول , بحيث يتعذّر أحيانا , على الكثير من الناس أنْ يلمّ بها تفصيليا , لكن الناس على وجه العموم بوسعهم أنْ يكتسبوا بقدر ما يبْذلوه من الجهد والسعي , بعضا من هذه العلوم , وخصوصا تلك التي تتصل بمعتقداتهم وعباداتهم . أمّا العلوم الإخرى , ذات المستويات المعمّقة , فأنّ لها أهلها , والذين هم طبقة من الناس , إستطاعت أنْ تتعمّق في بحوثها , مثلا عن واجب الوجود أوعن الوجود , وهل هو حادث أمْ قديم وغير ذلك . إذاً لنتْرك ذلك كلّه ونسْأل فنقول : ماذا نعرف عن عالم البرزخ ؟؟ راجيا التريّث في إجابتك , لأننا طالما سمعنا ببعض الطروحات عن عالم البرزخ , وهي لا تخلو في الغالب , من بعض المفاهيم السطحية إنْ لم تكن خاطئة والتي لا تسْتند على أدلة عقلية أو نقلية ناهضة . كما أنني أودّ الإشارة بدءاً , إلى أنّ عالم البرزخ حينما نصفه بالعالم , فأنّ هذا يعني من جملة ما يعنيه , انّه عالم فسيح واسع ومترامي الأطراف , ناهيك عن كونه عالما غيبيا , لذلك سيقتصر بحثنا على جوانب معينة منه .
البرزخ لغة , هو الحدّ الفاصل بين أمرين أو شيئين , أمّا في عالم العقائد , فإنه لا يختلف كثيرا عن معناه اللغوي الذي ذكرناه قبل قليل . فالعوالم ثلاثة : عالم الدنيا وعالم البرزخ وعالم الآخرة , وربما يتبادر إلى ذهننا سؤال ما , لكنني أسْبقه بمقدمة بسيطة .
لا شك في أن قدرة الله سبحانه غير متناهية , وأمّا خالقيته وقدرته في الإيجاد فهي أيضاً غير متناهية ولا حدود لها , والله سبحانه وتعالى إذْ أوجد هذه العوالم وجعلها ثلاثة , فأنه تعالى يعلم بأنها هي الأفضل والأحسن بالنسبة للإنسان , ولكن السؤال الذي يرد ها هنا : ما هي الحكمة التي أرتأها الذات المقدسة لتجعل هذه العوالم ثلاثة بدلا من عالم واحد أو عالمين مثلا ؟ . أمّا الإجابة عن هذا التساؤل فستأتي ضمنا أنشاء الله . لقد إعتاد الحكماء والعلماء الربانيون على إطلاق تسميات معينة تختص بشكل الانسان ونفسه , ظاهرا أو باطنا , عبر إنتقاله في هذه النشآت الثلاث , ففي عالم عالم الدنيا , وهو عالم الطبيعة والماديات , تكون نشأة جسم الإنسان من الهيولى , وهي المادة الأولى المعروفة في إصطلاح أهل هذا الفن , وأمّا في عالم البرزخ , وتحديدا بعد الموت حيث يندثر هذا البدن الطبيعي الدنيوي , لتحلّ النفس بجسم يسمّونه الجسم المثالي , إذاً فعالم البرزخ هو عالم المثال , وأمّا عالم الآخرة فإعتادوا على تسميته بعالم العقول . إذا عرفنا هذا , علمنا أنّ جسم الإنسان في الدنيا , هو غيره في عالم البرزخ , وكذا في عالم الآخرة , وهنا لابدّ من القول : أنّ النفس في هذه النشآت الثلاث , هي ذاتها التي كانت مع الإنسان وبرفقته , بعدما قطعت مراحل سيرها التكاملي الموجود فيها بصيغة قوة أوْ قل بهيئة إستعْدادات ذاتية , بحيث يمكن القول , أنّ النفس في النشأة الدنيا ومع إخلاصها لذاتها وجوارحها الباطنية وبما قطعته من تكامل , فأنها تكون بالنسبة إلى نفسها ونشأتها تكون في مرتبة عليا , وفي ذات الوقت فهي تعتبر آخر مرحلة تصل إليها ضمن ما عاشته في عالمها الدنيوي , في حين ستكون هذه المرحلة التي تنتهي مباشرة فور موت الإنسان , فأنها ستكون بعد خروج الروح من الإنسان , هي أوّل المراتب في عالم البرزخ , وبإيضاح أكثر , أنّ مرحلة الموت تحديدا , هي أعلى مرحلة إستطاعت انْ تصلها النفس ضمن عالمها الدنيوي لتدخل في عالم البرزخ فتصبح النفس هنا في أول مراتب عالم البرزخ , أي نهاية العالم الدنيوي وأول العالم البرزخي . أما عن الحكمة من حلول النفس في البدن الدنيوي وهي من الجواهر المجردة , فأن وراء هذا الحلول في البدن ذي الجوارح , غاية شريفة بحيث يتاح للنفس من خلال هذا الحلول في البدن في الدنيا , أنْ تحصل على مقامات كمالاتها إذا ما أخْضعتْ هذا البدن بجوارحه وجعلته مقاداً للقوة العقلية , هذه القوة التي هي بدورها تكون حسب الفرض والحكمة آمرة على النفس أيضا إلى جانب سيطرتها أيضا على القوى الأخرى المودعة في النفس البشرية , كالقوة الغضبية والقوة الشهوية وغيرها من القوى , وذلك وفق عمل يكون خاليا من الإسراف والتعسف في إستعمال هذه القوى . وبعبارة أخرى أنّ القدرة في النفس الناطقة , إضافة إلى وسائل البدن الأخرى المتمثلة بجوارحه , كلّ ذلك إذا ما إنقاد بإمرة القوة العقلية الموجودة اساسا في باطن النفس الناطقة ,ستكون النفس عندها , قد نالت المزيد من الكمالات وبموازاة هذه الكمالات , تكون النفس قد تخلّصت وبحسب طاقتها , منْ كل ما ما شأنه أنْ يقيّدها ويشدها إلى التعلقات الدنيوية المادية والظلمانية , بحيث تصبح الكمالات النفسية ملكة للإنسان تشعّ منها الرحمة النورانية , لا بل صار لها ملكة رحمانية تتزين بها وهذا هو اسمى هدف أراده الله تعالى للإنسان أنْ يصل إليه في هذه الدنيا .
الآن وقد إنتقل الحديث بنا , من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ , أيْ بمعنى موت الأنسان وإنتقاله من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ فهل انّ حصول هذه الإنتقالة من الدنيا إلى البرزخ , هو على النحو المجازي الصرف ؟ أمْ هو إنتقال حقيقي من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ ؟؟
في الحقيقة إنّك بأيّهما قلت وأعتقدت , فأنّك لا تخطأ بقولك أو بإعتقادك , ولا مانع منْ أنْ تكون مصيبا في القولين , ولا يتبادر إلى ذهنك انّ هذا القول فيه تناقض ولبس ويحتاج إلى إيضاح . إننا إذا قلنا أن الإنسان بموته يكون قد إنتقل من عالم الدنيا إلى عالم البرزخ , فهو تعبير صحيح جدا لا يخضع للمعاني المجازية ... وكذلك إذا قلنا بأن هذا الموت لا يعني تماما أنّ الإنسان قد إنتقل من عالم إلى عالم آخر فأنّ هذا القول إيضا لا يجانب الصواب في بعض جوانبه , خصوصا إذا كانت نظرتنا إلى هذه الإنتقالة نراعي فيها الجانب الباطني لهذا الإنتقال , لا النظرة السطحية التي لا تعطي معنى أكثر من الصور المتعارف عليها عندنا والذاهبة إلى أنّ الإنسان في حال موته , يدفن تحت الثرى لينتهي كل شيء . أنّ الحقيقة هي أكبر من مثل هذا التصور البسيط ,لأنّ الحقيقة هي غير ذلك , فعالم البرزخ من حيث تداخل الحجب مع عالم الدنيا , لا يمكن فصله فصلا على النحو الحقيقي , فهما موجودان أبداً , جنبا إلى جنب , أحدهما ظاهر وهو العالم الدنيوي , والآخر باطن له , وهو عالم البرزخ , تماما مثل عالمي الجن والإنس , فهما موجودان معا في هذه الدنيا ولكن لكل منهما وجوده وعالمه الخاص به , بحيث يتوجب علينا إضطراراً التصديق بهما ولو تعبّداً , كذلك عالم البرزخ , فهو معنا في كل وقت وآن في هذه الدنيا ... الأمام الخميني يقول بهذا الصدد : وما نريد قوله هنا , هو أنّ الإنسان إذْ هو موجود الآن في عالم الطبيعة , يكون موجودا أيضا وفي نفس الوقت في عالم البرزخ , لا أنّه سوف يأتي زمان يتم فيه تشذيب خصوصيات وجوده الطبيعي فيصبح آنذاك موجودا برزخيا , كلاّ , إنّه الآن له حظ الدارين من عالم الطبيعة ومن عالم البرزخ , كذلك في النشأة البرزخية , وفي مكان آخر , يضيف هذا العارف الكبير , مبيّناً سبب عدم إدراكنا للبرزخ في فترة وجودنا في العالم الدنيوي فيقول : ( ونظراً لغلبة أحكام الطبيعة علينا وتوغّلنا في شؤون عالمها , فقد صيّرنا أنفسنا عبيداً للذّاتها وشهواتها , فكان سبباً في غفلتنا عن البرزخ وأحواله , لذا لسنا مؤهلين الآن لِلقاء أهل عالم البرزخ , بعد أنْ أوصدنا الباب بيننا وبينهم بأيدينا , ولكن مع ذلك فنحن الآن في البرزخ , والواقع إننا برزخيون بقدر ما نتمتع به من قوى برزخية , ولو أخْضعنا أنفسنا للرياضة الروحية وكفينا صفحة القلب , شرّ الإنغماس في عالم الطبيعة , لكان بوسعنا مشاهدة عالم البرزخ وأهله ) . هذا وهناك الكثير من الروايات عن أهل البيت عليهم السلام بهذا الصدد لا يسع المجال لذكرها , ومنها الخبر المشهور الذي يذكر كيف أنّ أمير المؤمنين عليه السلام خاطب الموتى في الجبّانة , وقد إستغرب أحد أصحابه منه محادثته للموتى , حيث أخبره عليه السلام , بأنّ الغطاء لو كشف لك لرأيتهم حلقاً حلقاً أو بما يقترب من هذا المعنى تقريباً .
https://telegram.me/buratha