د.يوسف رشيد
بين السياسة والاخلاق بون شاسع قليلون هم الذين تمكنوا من الوثوب بين ضفتيه دون ان يمسهم بلل ذلك البلل الناجم عن التعثر في الجمع بين ما يبدو انهما متناقضين .. بين الاخلاق والسياسة يكمن ذلك الفرق الكبير الذي يبدو احيانا غير مرئي حين يجري الحديث عن حقائق مرئية وحركة تراف الاحداث على الارض وحين تزدحم الوقائع والاحداث ويصبح من العبث التقف دقيقة للتامل والتفكير .. التفكير يتاح فقط لصنع انطلاقات جديدة بعيدا عن سياقات المثل والاخلاق التي قد تصبح ضمن اولويات ثانوية حين يجري الحديث عن الوقائع والحسابات ..ربما عبر تشارلز ديكنز عن قحة الارقام كلغة تصدا الى جانبها القيم وتتعفن المباديء بل لا تجد من يقلبها ذات اليمين وذات الشمال في رقدتها الطويلة ..حينها فقد قدم الكاتب الانكليزي عالم القيم المفقود على شكل اخطبوط متعدد الاذرع بامكانه ان يخنق النسيج الاجتماعي برمته ويكسر اضلاع البشر خاطفا منهم ذلك الشعور بالمسؤولية تجاه الاخرين ..
قد تفهم السياسة احيانا بانها الاتجاه نحو الاستحواذ على مايمكن الحصول عليه من مكاسب ومغانم تسقط الى جانبها الوسائل وتصبح المعايير والقيم عديمة الجدوى بل مفقودة اصلا ولا وجود لها ..جرى الحديث في وقت سابق من القرن العشرين في عوالم متحضرة ومتقدمة ديمقراطيا عن الطريقين الذين ينتظران ثالثا : اهو العنف من اجل التحرر ...ام الحرية التي تصبح وسيلة وغاية للبناء والتقدم !!ما بين هذين الطريق يبدو ان الكثير منا قد يظل الطريق ...وتبدو الحسابات السياسية جزءا من اسقاطات الواقع وضروراته في حين انها اعادة بناء هرمي على جثث المباديء التي لا يجب ان يخلو منها العالم الذي نعتقد انه بدونها سيكون الى زوال .. كثيرا ما يبدو في العراق ان الوضع السياسي مربك ..فهو يقرأ بطريقتين ويأول وفق معنيين ..الاول يفرغه من ثوابت الاخلاق ويزج به في متاهات السياسة وقساوتها الرقمية ...بينما يرى البعض الاخر ان لا حياة بلا قوافل من القيم التي قد تعيق التقدم في البناء الجديد لانها تثقل كواهل المشرعين والعاملين على ترجمة تلك الرؤى الى تصورات مقنعة تقود الى تحريك المجتمع ليكون نافعا ..وحتى ذلك التشبث بعالم الاخلاق قد يخطأ السبيل احيانا ما يوقعنا في فخ الحيرة وفي متاهة الانصراف نحو تكفير المثال بصوره المختلفة لصالح الممارسة الواقعية ..
حين يجري الحديث عن قتل جماعي ومقابر ونزوح سكاني مهول فان ذلك يعني مجرد ارقام تتغير على الارض من وجهة النظر البشعة ..الرقمية ..الحسابية ..الربحية ..المتمعنة في اذى الاخر وامتصاص اخر قطرة من دماء المجتمع خدمة لمصلحة وقتية يعتبرها نقطة في رصيده الكبير ..ذلك الرصيد الخالي من الانسانية والمشطوب بالدم ..ان عقلنة الواقع لا عني بالضرورة تجريد الحركة السياسية من متبنايتها الفلسفية واخضاعها لا ملاءات المصلحة المجردة من ثوابت الاخلاق ومعايير حسن السلوك ..بل انها ممكنة في ضوء نحديث التجربة وزج دماء جديدة من الحيوية الى شرايينها ومفاصل بناءها ..نظرة سريعة لسيرة الشهيد محمد باقر الحكيم تكشف الكثير من تلك القدرة العجيبة على الابحار في عالم السياسة دون الحاجة الى ستر نجاة ..فالبوصلة التي يمكنها ان تنجيك في ذلك الابحار هي الاخلاق وهي وحدها الكفيلة بجعلك بمنأى عن الانجراف الى حافات الهلاك ..
https://telegram.me/buratha