تمر على العراق هذه الايام الذكرى ال(٢٩) لإستشهاد السيد محمد باقر الصدر، الصدر المفكر و الفيلسوف الإسلامي الكبير الانسان الذي بذل كل ما أستطاع لكي يبني مجتمعاً مسلماً نقياً من كل الامراض الاجتماعية. صوت باقر الصدر لا زال يدوي في أذان العراقيين مستحثاً هممهم للوقوف في وجه الظلم البعثي " فأنا معك يا أخي وولدي السني بقدر ما أنا معك يا أخي وولدي الشيعي، انا معكما بقدر ما انتما مع الاسلام، وبقدر ما تحملون هذا المشعل العظيم لانقاذ العراق من كابوس التسلط والاضطهاد".
كأنه يخاطب العراقيين الان فيدعوهم للوحدة و لبناء بلدهم و الوقوف صفاً واحداً من أجل العراق " فلتتوحد كلمتكم ولتتلاحم صفوفكم تحت راية الاسلام ومن أجل انقاذ العراق من كابوس هذه الفئة المتسلطة وبناء عراق حرّ كريم تحكمه عدالة الإسلام وتسوده كرامة الإنسان"
كلمات و مواقف الصدر لم تزل تتردد في انحاء العراق و العالم الاسلامي، وهي نبراس لأبناء هذا الوطن و هذا الدين نستفيد منها في الظروف التي نمر بها حالياً، و نحاول في السطور التالية تسليط الضوء على بعض المحطات الهامة في حياة الشهيد الكبير. الولادة و النشأة : ولد آية الله العظمى السيد محمد باقر الصدر (قدس سره) في مدينة الكاظمية المقدسة في الخامس والعشرين من ذي القعدة سنة 1353 هـ، وكان والده العلامة المرحوم السيد حيدر الصدر ذا منزلة عظيمة، وقد حمل لواء التحقيق والتدقيق والفقه والأصول، وكان عابداً زاهداً عالماً عاملا، ومن علماء الإسلام البارزين. أما والدته فهي الصالحة التقية بنت المرحوم آية الله الشيخ عبد الحسين آل ياسين، وهو من أعاظم علماء الشيعة . بعد وفاة والده تربى السيد محمد باقر الصدر في كنف والدته وأخيه الأكبر، ومنذ أوائل صباه كانت علائم النبوغ والذكاء بادية عليه من خلال تصرفاته، في عام 1365 هــ هاجر أخوه السيد إسماعيل الصدر الذي يعيله إلى مدينة النجف الأشرف، فاستأجروا داراً متواضعاً فيها و من هذا التاريخ بدأت رحلة الشهيد العظيم العلمية.
دراسته : تعلم القراءة والكتابة وتلقى جانباً من الدراسة في مدارس منتدى النشر الابتدائية، في مدينة الكاظمية المقدسة وهو صغير السن وكان موضع إعجاب الأساتذة والطلاب لشدة ذكائه ونبوغه المبكر، ولهذا درس أكثر كتب السطوح العالية دون أستاذ. بدأ بدراسة المنطق وهو في سن الحادية عشرة من عمره، وفي نفس الفترة كتب رسالة في المنطق، وكانت له بعض الإشكالات على الكتب المنطقية. في بداية الثانية عشرة من عمره بدأ بدراسة كتاب معالم الأصول عند أخيه السيد إسماعيل الصدر. وبعد انتقاله إلى النجف الاشرف لإكمال دراسته، تتلمذ عند شخصيتين بارزتين من أهل العلم والفضيلة وهما: آية الله الشيخ محمد رضا آل ياسين (قدس سره)، وآية الله العظمى السيد أبو القاسم الخوئي (رضوان الله تعالى عليه). أنهى دراسته الفقهية عام 1379 هـ والأصولية عام 1378 هـ عند آية الله السيد الخوئي (رحمه الله). بالرغم من أن مدة دراسة السيد الصدر منذ الصبا وحتى إكمالها لم تتجاوز 17 أو 18 عاماً، إلا أنها من حيث نوعية الدراسة تعدّ فترة طويلة جداً، لأن السيد كان خلال فترة اشتغاله بالدراسة منصرفاً بكلّه لتحصيل العلم، فكان منذ استيقاظه من النوم مبكراً وإلى حين ساعة منامه ليلا كان يتابع البحث والتفكير.
التدريس و المؤلفات : كان للسيد الشهيد مجلسان للتدريس بحث الأصول, و كان يلقيه في مسجد الجواهري بعد أذان المغرب بساعة في الأيام الدراسية في الأسبوع و بحث الفقه و كان يلقيه في جامع الطوسي في الساعة العاشرة صباح كل يوم من الأيام الدراسية و قد بدأ السيد الصدر في إلقاء دروسه ولم يتجاوز عمره خمس وعشرون عاماً، فبدأ بتدريس الدورة الأولى في علم الأصول بتاريخ 12 / جمادى الآخرة / 1378 هـ وأنهاها بتاريخ 12 / ربيع الأول / 1391، وشرع بتدريس الدورة الثانية في 20 رجب من نفس السنة، كما بدأ بتدريس البحث الخارج في الفقه على نهج العروة الوثقى في سنة 1381هـ .
وخلال هذه المدة استطاع الشهيد أن يربي طلاباً امتازوا عن الآخرين من حيث العلم والأخلاق والثقافة العامة، لأن تربية السيد الصدر لهم ليست منحصرة في الفقه والأصول، بل أنّه يلقي عليهم في أيام العطل والمناسبات الأخرى محاضراته في الأخلاق، وتحليل التأريخ، والفلسفة، والتفسير لذا أصبح طلابه معجبين بعلمه وأخلاقه، وكماله إلى مستوىً منقطع النظير، ولهذا حينما يجلس السيد بين طلابه يسود بينهم جو مليء بالصفاء والمعنوية. و من أبرز طلابه :: ـ آية الله السيد كاظم الحائري- آية الله السيد محمود الهاشمي الشاهرودي- آية الله السيد محمد باقر الحكيم. و للسيد الشهيد العديد من الطلاب الذين خدموا الاسلام والمذهب في العديد من المجالات وهم ليسوا من العراق فقط بل من دول اسلامية عديدة. اما من حيث التأليف فالسيد الشهيد له الكثير من الكتب والتي تعتبر من المراجع المهمة في المكتبة الاسلامية، ومن أهمها: 1- غاية الفكر في علم الأصول (و هو عشرة أجزاء طبع منه الجزء الخامس فقط و فقدت الأجزاء الأخرى)2- فدك في التاريخ (و هو كتيب كتب فيه بعض الملاحظات عن تاريخ فدك في سن الحادية عشر, و مع ذلك فإنه يعد مرجعاً بين الكتب الأخرى التي تتحدث عن نفس الموضوع)3- فلسفتنا (و هو كتاب يناقش المذاهب الفلسفية و خاصةً الفلسفة الماركسية )4- إقتصادنا (و هو كتاب يتحدث فيه عن الإقتصاد الإسلامي و يناقش فيه النظريات الإقتصادية مثل الرأسمالية و غيرها)5- المدرسة الإسلامية.6- البنك اللاربوي في الإسلام.7- الأسس المنطقية للإستقراء.8- الإسلام يقود الحياة.
الصفات الشخصية: إن من سمات شخصية السيد الشهيد تلك العاطفة الحارة، والأحاسيس الصادقة، والشعور الأبوي تجاه كل أبناء الأمة، تراه يلتقيك بوجه طليق، تعلوه ابتسامة تشعرك بحب كبير وحنان عظيم، حتى يحسب الزائر أن السيد لا يحب غيره، وإن تحدث معه أصغى إليه باهتمام كبير ورعاية كاملة، وكان سماحته يقول: إذا كنا لا نسع الناس بأموالنا فلماذا لا نسعهم بأخلاقنا وقلوبنا وعواطفنا؟ و كان السيد الصدر زاهداً في ملبسه ومأكله لم يلبس عباءة يزيد سعرها عن خمسة دنانير (آنذاك)، في الوقت الذي كانت تصله أرقى أنواع الملابس والأقمشة ممن يحبونه ويودونه، لكنه كان يأمر بتوزيعها على طلابه. ومن الصفات التي امتاز بها الشهيد هي النبوغ المبكر، فكانت علائم النبوغ بادية على وجهه منذ طفولته وقد نفذ السيد بنبوغه هذا إلى صميم القلوب بصفته شخصية علمية وفكرية بارزة، وحاز على اعتراف فضلاء وعلماء الحوزة العلميّة.
الشهيد الصدر و حزب البعث : كان السيد محمد باقر الصدر من العلماء الذين أوضحوا موقفهم من حزب البعث مبكراً، وكان للشهيد مواقف عظيمة تبين عظمة شخصيته الجهادية التي لم تخضع لطاغية ولم تركن لظالم. و نذكر هنا بعض مواقف السيد الصدر التي اتخذها ضد البعث، و من أهمها هو تصديه (رضوان الله عليه) إلى الإفتاء بحرمة الانتماء لحزب البعث، حتى لو كان الانتماء صورياً، وأعلن ذلك على رؤوس الأشهاد، و قد أفتى بذلك وحزب البعث في أوج قوته وكان ذلك جزءاً من العلة وأحد الأسباب التي أدت إلى استشهاده. كذلك في عام 1969 م، حاول البعث ضرب مرجعية المرحوم آية العظمى السيد محسن الحكيم (قدس سره) من خلال توجيه تهمة التجسس لنجله العلامة السيد مهدي الحكيم، الذي كان يمثل مفصلا مهماً لتحرك المرجعية ونشاطها، فكان للسيد الشهيد الموقف المشرف في دعم المرجعية الكبرى من جانب، وفضح السلطة المجرمة من جانب آخر، فأخذ ينسق مع المرجع السيد الحكيم (قدس سره) لإقامة اجتماع جماهيري حاشد، ويعبر عن مستوى تغلغل المرجعية الدينية وامتدادها في أوساط الأمة، وقوتها وقدرتها الشعبية وحصل الاجتماع في الصحن الشريف لمرقد الإمام أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، وكان حاشداً ومهيباً ضمّ كل طبقات المجتمع العراقي. و من المواقف التي تعبر عن الشجاعة العلوية التي اتصف بها الشهيد انه في صباح اليوم الذي قرر الإمام الراحل سماحة آية العظمى السيد الخميني ( رضوان الله عليه ) مغادرة العراق إلى الكويت قبل انتصار الثورة الإسلامية في إيران، قرر السيد الصدر الذهاب إلى بيت الإمام لتوديعه، بالرغم من الرقابة المكثفة التي فرضتها سلطات الأمن المجرمة على منزله. هذه المواقف التي أكسبت السيد الشهيد الحب و التعلق في قلوب المؤمنين، كانت في نفس الوقت سبباً في كره السلطة البعثية له انذاك، فلم تتوانى في البحث عن وسيلة للتخلص منه .
شهادته : بعد أن مضى عشرة اشهر في الإقامة الجبرية، تم اعتقاله في 19 / جمادى الأولى / 1400 هـ الموافق 5 / 4 / 1980 م. وبعد ثلاثة أيام من الاعتقال الأخير استشهد السيد الصدر بنحو فجيع مع أخته العلوية الطاهرة (بنت الهدى). وفي مساء يوم 9 / 4 / 1980 م (1400هـ)، وفي حدود الساعة التاسعة أو العاشرة مساءً، قطعت السلطة البعثية التيار الكهربائي عن مدينة النجف الأشرف، وفي ظلام الليل الدامس تسللت مجموعة من قوات الأمن إلى دار السيد محمد صادق الصدر ـ أحد أقربائه ـ وطلبوا منه الحضور معهم إلى بناية محافظة النجف، وكان بانتظاره هناك المجرم مدير أمن النجف، فقال له: هذه جنازة الصدر وأخته، قد تم إعدامهما، وطلب منه أن يذهب معهم لدفنهما، فأمر مدير الأمن اتباعه بفتح التابوت، فشاهد السيد محمد صادق الشهيد الصدر (رضوان الله عليه). مضرجاً بدمائه، آثار التعذيب على كل مكان من وجهه، وكذلك كانت الشهيدة بنت الهدى (رحمهما الله). وتم دفنهما في مقبرة وادي السلام، المجاورة لمرقد الإمام علي (عليه السلام) في النجف الأشرف.
و أخيراً... لقد أدى محمد باقر الصدر واجبه اتجاه ربه و دينه و وطنه، فلم يتراجع ولم يخنع لظالم، بل واصل جهاده وكفاحه على طريق أجداده وابائه عليهم السلام، فسار على طريق الحسين طريق الشهادة و لم يتردد. وهذه شجرة الاسلام الشجرة التي لا ترتوي إلا بالدم القاني الطاهر للشهداء، فسقاها الصدر بدمه المقدس ومضى شهيداً لربه. وهكذا فقد العراق و العالم الاسلامي علماً خفّاقاً في سماء الإيمان والعلم والمعرفة. اغتالته يد الطغيان والظلم، المولعه بدماء المؤمنين الابرار (وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون). "باقر الصدر منا سلاما أي باغ سقاك الحماما أنت أيقظتنا كيف تغفو أنت أقسمت أن لن تناما"
اعداد : حسين الناصر
https://telegram.me/buratha