أحمد غلوم بن علي
لم يعد النمو الاقتصادي الذي تصاعد منذ 2002 أي منذ استلام حزب التنمية والعدالة زمام السلطة يشفع لحكومة اردوغان من زلزال الفساد الذي شمل حزبه قبل حكومته، كما لم يشفع له أيضا وجهه الاسلامي وموقفه من سفينة مرمرة من نزول من انتخبوه من الاسلاميين إلى الشارع للتظاهر ضده رافعين شعارات مطالبة بالإستقالة، كما لم يشفع الحلف الاطلسي الذي وقع معه منذ أشهر قريبة عقد انتشار منظومة الدرع الصاروخي في الاراضي التركية من انقلاب أمريكا وتحضيرها ملف الفساد للصحف التركية.
ما يجري في تركيا اليوم صور وخيوط للعبة تعبر عدد من الأراضي العربية والاسلامية وتلتئم تلك الخيوط في سوريا لتعبر عن صراع ارادات دول على طبيعة النظام العالمي الجديد، لكن دعونا من العناوين العامة ولنلقي نظرة قريبة على ما يجري في تركيا.
ملف الفساد تفجر منذ السابع عشر من ديسمبر وبدأ بالتوسع إلى أن اطاح بحكومة اردوغان باستقالة عدد من الوزراء المنتمين لحزب العدالة والتنمية بالإضافة لعدد من البرلمانيين المنتمين أيضا للحزب، الأمر لم يكن مهما إن كان الخصم علمانيا، فللحزب معارك شرسة مع العسكر وأحزابها لكنه هذه المرة من أقرب الحلفاء بل من القاعدة الأساسية التي يرتكز عليها الحزب والذي تأسس عبرها، إنه تصدع الحزب وبداية التفكك.
تبدأ القصة من الغرام بين رجب طيب اردوغان وفتح الله غولن الإمبراطور الديني والذي تلقبه وسائل الإعلام بالداعية ذي التوجهات الإسلامية الأكثر محافظة من اردوغان، وسبب الغرام كان مواجهة العلمانية، وكان غولن قد صرح بذلك علنا منذ أربعة عشر عاما ما دفع العسكر وبولند أجاويد إلى مضايقته وهو ما أدى به إلى اختيار الهروب إلى أمريكا عام 1999م.
غولن لا يعتبر شخصا عاديا في الساحة التركية، فهو يملك امبراطوية من شركات الاعلام وشركات مختلفة في عدد من القارات، لكن ليس ذلك ما يجعله مهما، امتلاكه لأكثر من ألف مدرسة تعليمية ودينية وغيرها بالإضافة لترؤسه لجماعة النور وشبكة نفوذ واسعة جدا في سلك الشرطة والقضاء هو ما يجعله رقما صعبا في تشكل السلطة في تركيا بعد العسكر، ولا نريد القول أن أردوغان ليس إلا واجهة خارجية بل على العكس، لأردوغان نفوذ قوي في الأوساط الدينية والسياسية إلا أن قاعدته الانتخابية تعتمد بشكل رئيسي على قاعدة غولن (وجماعة غولن) التي يصل تعدادها قرابة مليوني صوت وهي القاعدة الأوسع في تركيا بعد أتاتورك.
صراع غولن مع أردوغان لم يبدأ من قرار الحكومة التركية إغلاق جميع المدارس المسائية التي يملك غولن أغلبها وتعتبر شريانه الاجتماعي والسياسي لكنه يعود إلى معارضة غولن إبحار سفينة مرمرة التركية نحو غزة لفك حصارها في 2010م بداعي أنها تهدد العلاقات الاستيراتيجية مع الكيان الاسرائيلي، وتبع ذلك نقده اللاذع لاردوغان عندما قرر الاخير التصعيد على أثر هجوم الاسرائيليين على السفينة وسقوط عدد من الاتراك فقطع اردوغان العلاقات مع الكيان واشترط شروطا لارجاعها، وهو الأمر الذي عكر صفو العلاقات الزوجية بين الرجلين.
تطورت الأزمة بين الاثنين باغلاق المدارس كما ذكرنا ثم اطاحة 25 قيادي في الشرطة من جماعة غولن ونقل أكثر من 2000 شرطي مرتبطين بالتحقيق في قضية الفساد، كما تم فصل عدد لا بأس به من الشرطة الأخرين المنتمين لجماعة غولن.
واليوم يبدو أن غولن المتفوق على اردوغان حبا للكيان الاسرائيلي وبعض العرب المتحالفين والكاره لايران فتح ملف الفساد الذي تورط فيه عدد من وزراء الحزب أبرزهم وزير الاقتصاد المتهم برشوة 40 مليون دولار كما أتهم فيه مدير بنك (خلق) سليمان أصلان برشوة 7.7 مليون دولار، ووصل الاتهام إلى الإبن الأكبر لأردوغان بلال عبر المؤسسة التركية لخدمة الشباب والتربية التي يرأسها.
قصة الفساد معقدة لكن عنوانها العام التعامل التجاري السري مع ايران هروبا من العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها، وهي بخلاصة تشتري أنقرة الغاز الطبيعي الإيراني لكن دون تحويل المال وإنما عبر تحويل قيمة الغاز عبر 11 شركة يملك رضا دراب أغلبها إلى سبائك ذهب يهربها الأخير إلى طهران، ورضا دراب هذا لمع اسمه في الاحداث الأخيرة ويقال أنه واجهة لشخصية أخرى، لكن ما يهم هنا أن دراب وهو من أصول أذربيجانية صعد بشكل مفاجئ لصفوف المليارديريين الاتراك فمنذ العام الاول لتدشين شركته ربح حصة 46% من مجمل الصادرات التركية كلها، ومع أنه شاب في مقتبل العمر إلا أنه بات يملك شبكة كبيرة من شركات الاسهم والمجوهرات والحديد والصرافة، وهو اليوم معتقل بتهمة رشوة مدراء بنوك ووزراء لتسهيل عمليات غسل أموال.
لكن خيوط اللعبة لا يبدو أنها تنتهي عند خرق العقوبات الاقتصادية على ايران ورشاوي، فالسفير الامريكي في انقرة فرانسيس ريتشاردوني خلف تدشين هذا الملف للصحف التركية وبغض النظر عن تداول وسائل الاعلام للاجتماع السري في سفارته والذي بعده بدأت سبحة الفساد في تركيا بالانفراط، فللسفير ودولته علاقة لم تعد خافية مع غولن المقيم في امريكا والذي لا يبدو أن تكون صدفة تشابه اسم جماعته مع الجماعة السلفية في مصر، فعلى ما يبدو ارتبطت مصالح غولن مع أمريكا اليوم والسر على ما يبدو سوريا وتشكلات المنطقة.
لهذا يجب أن يكون السؤال عن سبب إنقلاب واشنطن على أردوغان اليوم الحليف الأطلسي، وهو برأيي يعود لعدة أمور، أولها رغبة أمريكا بمواصلة الضغط الاقتصادي على ايران قبل جنيف 2 ، كما أنه يعود إلى إرضاء مصر بعد الاخوان بتحجيم دور الاخوان كما إنه أيضا ارضاء للسعودية الغاضبة على التسوية النووية مع ايران، والأهم من ذلك ايقاف الدعم اللوجستي القوي من تركيا للجماعات المتطرفة في سوريا والذي عبرت عنه بغضب الولايات المتحدة الامريكية، وهو الأمر الذي وعته حكومة اردوغان متأخرا عبر تصريح لوزير الدفاع التركي عصمت يلماظ الذي نفى تسليح المعارضة السورية بأسلحة قتالية، ويعود السبب أيضا إلى توقيع تركيا مع الصين انشاء منظومة الدفاع الصاروخي والذي أغضب الحلف الاطلسي، بالإضافة لأسباب أخرى أيضا.
أردوغان بات عائقا أمام تسويات جديدة في المنطقة كما أنه أصبح خطرا بعد التجربة المصرية الاخوانية بعدما كان نموذجا اسلاميا ديمقراطيا تسوقه الادارات الامريكية، مع ذلك كان يمكن لأردوغان أن يفهم الدرس من مصر ويعيد ترتيب أولوياته لكنه وقف في وجه تشكلات جديدة في المنطقة وهو اليوم يحاول التودد للكيان الاسرائيلي من أجل إرجاعه للحضن الامريكي لعلمه أن الاسرائليين الوكلاء الحصريون للماركة الامريكية لا بعض الموزعين العرب.
بانوراما الشرق الاوسط -
22/5/131229
https://telegram.me/buratha