بقلم السيدعبد اللطيف العميدي
ان مجرد الكتابة عن العلماء العاملين يحتاج الى رصيد من المعرفة والاطلاع في خصوصيات ومنازل اولئك الافذاذ خصوصا اذا ما كانوا من الذين التحقوا بركب الشهداء ليختموا عطائهم ببذل الانفس رخيصة في سبيل الحق وليدخلوا من الباب الذي فتحه الله لخاصة أولياءه ، الا أن ما لا يدرك له كله لا يترك جله . من واجب الوفاء لهم واحياءً ذكرهم ومن أولئك المجاهدين باليد واللسان العلامة المجاهد السيد حسن بن السيد علي القبانجي , علم عرفته سوح العلم والخطابة والجهاد السياسي والتاليف في شتى المجالات المعرفية .
الولادة والنشاة : ولد سيدنا القبانجي في النجف الاشرف عام 1328هـ الموافق لعام 1907 م في جوار مرقد جده المرتضى ومنذ نشأته الاولى سلك مسلك العلماء وعكف على دراسة العلوم الدينية وقرأ على يد شيوخها حيث درس العربية والمنطق على يد الفاضلين السيد حسن الحكيم والشيخ محمد صالح صحين , واخذ المعاني والبيان على يد الفاضل الشيخ علي ثامر ، والفقه والاصول على يد العلامة الشيخ زين العابدين العاملي وتخرج في العلو م الالهية على يد آية الله السيد محمد جواد التبريزي ، أما في الخطابة فتتلمذ على يد الخطيب الشيخ محمد حسين الفيخراني . حيث اظهر في كل تلك الدروس نبوغا علميا وقدرة خطابية الامر الذي دعا مرجع الطائفة الدينية يومئذ آية الله العظمى السيد ابو الحسن الاصفهاني لبعثه وكيلا عنه في الامور الدينية والاجتماعية الى مدينة المحمرة حيث واصل عمله هناك مدة ثلاث سنوات كما ذكر ذلك المؤرخ أغابزرك الطهراني في موسوعته (الذريعة) فالظروف العائلية وطبيعة النشأة الدينية المحيطة به لم تكن تسمح الا بانبثاق الوعي الديني والتوجه العلمي في شخصيته , ومن هنا كان الشهيد نموذجا في اسرته وعشيرته .
ملامحه الشخصية: لقد عمل السيد القبانجي على التوفيق بين منهج الحوزة العلمية والدراسة ومنهج الخطابة والمنبر.لقد عايش الشهيد في زمانه مجموعة من التيارات السياسية والافكار الدخيلة على الاسلام وكانت هناك حاجة ملحة للوقوف ومواجهة تلك التيارات حيث كرس قسما من احاديثه لمواجهة الغزو الثقافي في وقتها والذي اثر على قطاعات واسعة من الشباب المسلم ، فنجده يستثمر كل مناسبة للدعوة الى التحرير من قيود الثقافة الغربية. اضافة الى مهامه في التبليغ الاسلامي وتعظيم شعائر الله في احياء مناسبات آل البيت .
جهاده السياسي: لقد عاش الشهيد القبانجي مرحلة الاحباط النفسي الذي ملأ قلوب الناس وافكارهم بعد اخفاق ثورة العشرين والاستسلام للقرارات المفروضة من الغزاة الاجانب وسقوط معقل الثورة في النجف الاشرف فهي مرحلة الانتكاسة وابعاد علماء الدين خارج البلاد عندها نجد ان اهتمامات السيد انحصرت بـ : 1ـ الدفاع عن حقوق الشيعة ومواجهة الطائفية . 2ـ مواجهة التحريف الفكري للجيل الناشئ 3ـ الموقف من الحرب الدموية ضد الاكراد . حيث عرف ياسين الهاشمي رئيس الحكومة آنذاك بمواقفه الطائفية الحاقدة على الشيعة وبلغت به الجرأة أن ينصب العداء للزهراء (ع) مدعيا ان الحسن و الحسين أبناء سلمان الفارسي فكان للمرجعية الدينية موقفا حازما حيث اجتمعوا في الصحن الحيدري الشريف وقرروا مواجهة هذا الفكر الطائفي بارسال من يمثلهم الى كافة مناطق العراق للتوعية والتحذير من مثل هذه الهجمات والحكومات المعادية لاهل البيت(ع) فكان الاختيار وقع على الشهيد القبانجي للتصدي وابراز مظلومية الشيعة في محافظة الناصرية باقضيتها .حيث أبلى بلاءً حسنا وعقد الاجاماعات الجماهيرية والقى الخطب التي ما لبثت السلطات أن اعتقلته جراءها لايام عدة فتدخلت المرجعية وتم اطلاق سراحه بقرار من بغداد .
أما في موضوع الاكراد فقد كان شهيدنا اول من ذكر حرمة قتالهم من على المنابر وطبق فتوى الامالم الحكيم عمليا , وكان يقول في احدى كلماته : ( لو ان اصبعي يريد أن يكون عونا للظالم البعثي لكنت اقطعه لذلك ) واستمر جهاده السياسي عندما استحكمت عصابات البعث على مقدرات العراق فكانت كلماته وخطاباته اوقع من الرصاص على سلطات البعث ونظامه وخصوصا من كان يمثلهم في المحافظة . وعندما نصحه أقربائه بترك التهجم على الحكومة البعثية والتقرب لمحافظ النجف حينئذ جاسم الركابي كما كان يقول : ( يطلبون مني أن أزور هؤلاء الكلاب والله لو قتلوا أولادي التسعة لما تقربت اليهم) وقد ربى اولاده على النفس الابية ورفض الظلم والانكار على البعثيين فقد كالن يقول : ( لقد فعلت ما استطعت وتركت الامر لاولادي لحمل الراية فمنهم من استشهد ومنهم من يواصل طريقه) وبالفعل فقد كان للسيد القبانجي تسعة أولاد ذكور وتسعة بمات ، ولم يفت من عضده شهادة ولده الاكبر الحجة المجاهد السيد عز الدين وابن اخته الحجة السيد عماد الدين الطباطبائي والذين فتحوا طريق الشهادة وركبوا اعواد المشانق عام 1974 م مع مجموعة الشهيد عارف البصري (قبضة الهدى)، وشارك ابناءه الثلاثة السيد علي والسيد احمد والسيد صادق في انتفاضة صفر عام1977م وعندما اندلعت انتفاضة رجب عام1979م اثر اعتقال الشهيد الصدر (قد) كان ابنه السيد صدر الدين احد المخططين للانتفاضة واعتقل اثر ذلك وحكم عليه بالاعدام وبعد اشهر وفي مسرحية العفو السياسي افرج عنه ، بينما كانت ثلاثة من بناته شاركن في تلك المظاهرة الشجاعة والتي لم يشترك فيها سوى مئة رجل وتسعة نساء . ثم استمرت مسيرة العطاء حيث قدم السيد القبانجي اولاده الاربعة قرابين للاسلام وللعراق، فاستشهد ولده المجاهد البطل السيد علي عام1981م في عمليات مقاومة البعث الصدامي ، واستشهد ولده الحجة السيد صادق عام1982م ايضا ، كما قضى ولده الشهيد المظلوم السيد عبد الحسين في سجون البعث عام 1982 ، ولم يعثر على أثر له شأنه شأن أبيه صاحب السيرة .
التوفيق للشهادة: لقد كان السيد القبانجي يتمنى الشهادة في حله وترحاله عشقا لعظيم مقامها وشوقا للقيا الرحمة الالهية ولقيا الاحبة ، وعندما امتد به العمر ظن أنه قد فاته هذا النصيب فكان يقول : ( لقد كبرت وكنت لا أتمنى العمر الطويل بل الشهادة خصوصا على يد هذا النظام اللئيم ) إن عمرا حافلا بمداد العلماء والجهاد في مقارعة الاعداء لحري أن يكتب له الشرف العظيم فكان من توفيق الله سبحانه أن يجمع له مرتبة الشهادة وهي التي لا ينالها الا ذو حظ عظيم ، خصوصا اذا ما كانت على يد ألعن خلقه وأبغضهم اليه . فتحققت أمنيته بنيل الشهادة ، فبعد صراع مرير مع البعث ومضايقات ومراقبة جواسيسه ، وبعد أن احتسب أبنائه الذين كانت انباء شهادتهم واعتقالهم تترى على مسامعه فيحتسبهم عند الله , وبعدما بلغ (84) سنة وتحديدا بعد قمع الانتفاضة الشعبانية عام1991 اقتيد سيدنا الشهيد من بيته من قبل جلاوزة البعث شأنه شأن المئات من فضلاء الحوزة العلمية ليلاقوا الله صابرين محتسبين في العشرين من شهر رمضان بعد شوط من التعذيب الجسدي وليتأسوا بجدهم أمير المؤمنين في يوم شهادته ، وكانت لشهادة سيدنا القبانجي اسوة ثانية وشبها بشهادة الصحابي حبيب بن مظاهر . وزاد عليه شهيدنا انه اصبح شهيدا بلا رفاة .فسلام عليه وعلى ذريته الشهداء يوم ولدوا ويوم لقوا الله بدماء من العز حمراء ويوم يبعثون احياء ليوفيهم ربهم اجر ما كانوا يعملون والحمد لله وكفى وسلام على عباده الذين اصطفى.
https://telegram.me/buratha