لا احد يستطيع أن يجزم متى ظهرت أول مكتبة في التاريخ ولكن تدل معظم الدراسات على وجود أول المكتبات في بلاد ما بين النهرين في بلدنا العراق ، حيث منشأ الحضارات القديمة وتحديدا الحضارة السومرية وما تلاها من حضارات في بابل واشور وأكد وغيرها ، التي علمت البشرية اولى لبنات المعرفة باكتشافها الكتابة، وسنها وتدوينها اول القوانين في التاريخ بالواح ثم مسلة حمورابي ، وعرف الانسان العراقي قبل غيره استخدام البردي واستخدام قصب الاهوار فيما اصطلح عليه أول قلم استخدمته البشرية في عصر التدوين.
اما بالنسبة للتاريخ الاسلامي فقد كانت أول مكتبة في المساجد التي لم تكن مجرد دار عبادة بل كانت مكانا تدار من خلاله جميع أمور الدولة الاسلامية حيث كانت بها المصاحف وكتب الحديث وكانت هناك مجموعة الرقاع التي يمكن ان نسميها مكتبة في بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم حيث يحفظ فيها ما يكتبه كتاب الوحي التي من أشهرها قول النبي (ص) : انا مدينة العلم وعلي بابها وكذلك قول امير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) :علمني رسول الله ألف باب من العلم ، كل باب يفتح ألف باب.
ولما كان للمكتبة (العامة والمدرسية والمنزلية) أهمية وأثر في اعداد جيل جديد متسلح بالمعرفة فان مهمة الدولة والمواطنيين في ذلك على حد سواء، ولتفعيل هذا المرفق الحيوي الذي تكاد تنعدم فيه النشاطات لعدم قيام وزارة التربية بايلائه الاهمية كونه يمس جوهر بناء الانسان ولاهمية هذا الموضوع قامت (المراقب العراقي) بجولة لمعرفة آراء العديد من الاساتذة والمختصين والاكاديميين والكتبيين لتسليط الضوء على هذه الظاهرة المهملة من أجل المساهمة في تنشيط وتفعيل المكتبات كي تضعها أمام المعنين وفي مقدمتهم وزارة التربية ومجالس المحافظات لتسهم في تأشير الخلل في مرافق الدولة ومؤسساتها لمعالجته واعادة بث روح القراءة والاهتمام بالكتاب كقيمة فكرية ومصدر ثقافي لا ينضب .
المكتبات مرآة المجتمعات
يقول نبيل عبد الامير الربيعي عن أهمية المكتبة العامة والمكتبة المدرسية في وعي الفرد العراقي :أن للمكتبات الدور الكبير في انعكاس مستوى التقدم للشعوب ونشر المبادئ والقيم الحضارية وتوجيه الأفراد للمساهمة في تطوير المفاهيم الإنسانية وتقدم المجتمعات,وإن( تطور الثقافة والفكر لكل مجتمع يرتبط أشد الارتباط بالوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي لكل بلد عبر مسيرته التاريخية, والمكتبات هي إحدى الروابط التي تحتوي الماضي والحاضر والعمل من أجل المستقبل في هذا الجانب الحيوي . وتعتبر المكتبات مرآة المجتمعات ... من خلال نمطها ومنهجها والدور الذي تلعبهُ من أجل تقدم البلدان) . مضيفا ويشكل الكتاب ركناً مهماً من أركان بناء الفرد العراقي , فقد كانت تجربة المكتبات العامة والمكتبة المدرسية فترة الستينيات والسبعينيات من القرن الماضي في العراق تجربة ناجحة في رفع المستوى الثقافي والأدبي والعلمي للفرد العراقي , فكانت النتائج ظهور جيل اهتم بالثقافة والآداب والفنون والعلوم نتيجة توفر الكتاب بين يد الطالب في جميع المراحل الدراسية, إلا إن دخول النظام السابق الحروب أدى الى إنهيار النظام التعليمي بصورة عامة والمكتبات بصورة خاصة وإستمر ذلك حتى بعد عام 2003 عام التغيير.مؤكدا أننا لو تابعنا تجارب دول العالم سنلاحظ اهتمام هذه الدول بوزاراتها التعليمية والثقافية باعتبار إن ثقافة المجتمع تأتي من المطالعة والمتابعة للكتاب في جميع المجالات الثقافية والأدبية والفنون بجميع مجالاتها والعلوم بأنواعها , فالمكتبات وتوفير الكتاب هي مهمة الدولة أولاً لذا فمن الضروري دعمها المستمر ورفدها بكل جديد ومتابعة الوسائل التقنية وضرورة توفيرها في المكتبات العامة والمكتبة المدرسية , إذ لا يمكن أن نبني الفرد ومن ثم المجتمع ما لم نهتم بهذا الجانب الحضاري.
تقصير وزارة التربية
من جهته قال المشرف التربوي المتقاعد سعد جمعة :رغم مرور تسع سنوات على التغيير في العراق إلا أن القصور لا زال واضحاً في تطوير المكتبة المدرسية أو العناية بموجوداتها والتوجه نحو النهوض بمهامها , إضافة إلى افتقار غالبية المكتبات المدرسية إن وجدت إلى الكتب التي تتناسب والتوجهات العلمية الحديثة , كما إن من أسباب ضعف الاهتمام بالمكتبات المدرسية قلة التخصيصات المالية المرصودة لهذا الجانب وعدم كفايتها لسد النقص الحاصل في الكتب والمصادر العلمية الحديثة الواجب توفيرها في المكتبات المدرسية.
ولو راجعنا فقرات قانون وزارة التربية رقم(124) لسنة 1971 فقد ذكرت المادة رقم(1) :-
أولا- تؤسس في كل مدرسة ومتوسطة وثانوية ومهنية, وفي كل معهد ودار معلمين , مكتبة رئيسة تزود باستمرار بالكتب والمجلات والوثائق وغيرها من المطبوعات , وبالوسائل التعليمية المناسبة ويجب حفظ هذه المحتويات وصيانتها وتنظيمها وتصنيفها وتيسير الانتفاع بها للأغراض التربوية والثقافية المتوخاة, وعلى الصورة المذكورة في المادة الخامسة من هذا النظام.
ولو راجعنا المادة رقم (4) من قانون وزارة التربية أعلاه نلاحظ مايلي :( يتم تمويل المكتبات المدرسية لأغراض البناء وتزويدها بالآثاث واللوازم وبالمحتويات من المطبوعات والوسائل التعليمية وغيرها بما يكفل مهمات تأسيسها وتطويرها باستمرار وتحقيق أغراضها التربوية والثقافية , بكون مصادر التمويل على الوجه الآتي:
1)اعتماد الميزانية العامة للإدارة المحلية لوزارة التربية.
2) اعتماد خطة التنمية القومية , وبرامجها السنوية الاستثمارية.
3) الهدايا( التبرعات من التلاميذ والطلاب وأولياء أمورهم, ومن المعلمين والمدرسين والمشرفين التربويين, ومن المؤلفين والمترجمين , ومن المنظمات الشعبية والجمعيات) .
أما المادة العاشرة فتذكر : ( تضع وزارة التربية خططاً لتطوير المكتبات المدرسية , تتفرع من خططها لتطوير التعليم الابتدائي والتعليم الثانوي بأنواعه وتحدد فيها المرامي وسبل التطوير وتحقيق الكفاية لنشاطها , كما تضع التعليمات والتوجيهات لتنظيم شؤون المكتبات المدرسية بما يكفل وفاءها , ولها أن تؤلف لجنة مركزية للمكتبات للنظر في شؤون المكتبات عامة ومتابعتها وتزويدها بالكتب التي تستجيب للمقتضيات المدرسية التعليمية والتربوية).
ولكن نلاحظ ضعف الاهتمام بهذا الجانب وعدم الالتزام بالمواصفات القياسية الخاصة بمباني المكتبات المدرسية إن وجدت , كما هو الحال في التعليم المهني في اغلب المحافظات, وبعض المكتبات عبارة عن صف من صفوف المدرسة , أو غرفة من غرف الإدارة المدرسية , إذ لم تصمم لتكون مكتبة مدرسية , كما تفتقر بعض المكتبات المدرسية إلى الآثاث والتجهيزات المتكاملة من حيث عدد الرفوف والمناضد والكراسي , وتعاني بعض المكتبات المدرسية من قدم الآثاث الموجود لديها, وعدم توفر الخدمات الحديثة في المكتبات المدرسية الموجودة مثل خدمة الحاسوب والانترنت حيث معظم الخدمات المتوفرة هي خدمات تقليدية وليست آلية , وهنالك نسبة كبيرة من المكتبات المدرسية تعاني من قلة المبالغ المخصصة لها من وزارة التربية لتطوير مكتباتها وجعلها تواكب التطورات الحديثة, إضافة إلى قلة عدد أمناء المكتبات المدرسية الذين لديهم الخبرة والتأهيل العلمي في مجال المكتبات والمعلومات.
الكتب وتذليل الصعاب
من جانبه قال المدرس المتقاعد أنيس فليح :قامت الدولة باصدار قانون لمكافحة الأمية ويجري على قدم وساق في كافة انحاء العراق تطبيق البرنامج المعد وخصصت الميزانية وتم اعداد الكادر التدريسي ونتوقع ان تحل بفترة زمنية ليعود العراق معافاً من ظاهرة الامية .مضيفا أن المكتبات المدرسية توجه اطفالنا توجيها صائبا للاطلاع على تراثنا الاسلامي والفكري الثري،وهي كذلك تزود التلاميذ في المرحلة الابتدائية بالمادة الثقافية المطلوبة لاعداد أجيال مطلعة ومتنورة ومتسلحة بكافة ألوان شجرة المعرفة والوارفة،وتقع مسؤولية تنمية الموارد البشرية على عاتق وزارة التربية بالدرجة الاولى لأن اعداد هذه الاجيال غاية يجب التوجه اليها واعداد دراسات وبحوث مكثفة وباستمرار كون هؤلاء هم جيل المستقبل الذي يصنع الحياة ويتسلم مقاليد الحكم في السلطات الثلاث وفي كافة مواقع الدولة والقطاع الخاص فإذا أحسنا التخطيط لمسنا نتائج باهرة .كما ان للمكتبات دورا عظيما في شحذ الهمم وبناء شخصية المواطن،حيث يقول الروائي ارنست همنغواي الحاصل على جائزة نوبل للآداب عام 1954 : "إن قراءة الكتب المعتبرة تساهم في تذليل الصعاب وفي الحياة المستقبلية لكل انسان".ويأسف أنيس للإهمال الكبير الذي يشاهده في المكتبات المدرسية في بغداد وكافة المحافظات.ويتساءل عن سبب عدم تزويد المدارس بالمطبوعات الجديدة والحديثة الصادرة من مؤسسات الدولة ولماذا لاتخصص الاموال لبعث الروح في هذا المرفق الحيوي والتربوي؟
الدراسات والبحوث
ويؤكد الأكاديمي عباس جبر عنبر :أن عدم اهتمام وزارة التربية وكذلك منظمات المجتمع المدني والتجار واصحاب رؤوس الاموال وكل الميسورين والدولة يتسبب في فقدان الأمل في مستقبل العراق .وهذا الامر يقلقه لأن الحاضر لا يسير في الاتجاه الصحيح .حيث يعتقد بضرورة الوحدة الوطنية والانتهاء من الماضي بل هو يصر على قبر المعتقدات والافكار الشمولية في رمسها هو خطوة على الطريق السليم.كما ينبه الجهات ذات العلاقة الى ضرورة اعتماد مراكز بحوث ودراسات مثلما معمول به في الدول المتقدمة والدول الناشئة.ويضيف بأن بلدنا يمتلك كافة الكفاءات لو انيطت بها مثل هذه المهمة لاصبحنا في غضون سنوات نتقدم على كافة دول المنطقة ولأصبحنا مصدر رعب لدول الجزيرة الخاوية.
النشء الجديد
واستغرب الاكاديمي فاضل حميد جامعة بغداد كيف تسنى اختيار وزير التربية وهو من خارج اروقتها،مؤكدا انه يجب ان يكون تعيين المسؤولين حصراً بمن لديه خبرة مع الشهادة وليس عن طريق المحاصصة لأنه حينما يتولى وزير مسؤولية وزارة ولا يعرف الاهداف العامة والإستراتيجية ستحل الكارثة ويتسبب الوزير بمصاعب وويلات ليس على صعيد الحاضر بل المستقبل لكونه يعمل في مجال ليس من إختصاصه.مشيرا إلى ان الوزارات يجب ألا تخضع لمبدأ فاشل مثل المحاصصة،بل يجب أن تخضع لعوامل الكفاءة والتخصص.ويضرب مثالا لو اننا جئنا بمتخصص بتنشئة الجيل القادم لأصبحنا مرتاحين على مستقبل العراق،كون المكتبات المدرسية ستنشئ جيلا غايته متابعة المعرفة وهنا بامكانه من خلال قراءته المستمرة أن يكتسب طرق التحليل والاستنتاج وبالتالي يولد طرقا ابتكارية هي الاخرى تساهم في احداث النقلة النوعية في المجتمع العراقي.
المكتبات المدرسية
كما أكد لنا أيضاً فاضل حميد الجامعة المستنصرية:أن المكتبات المدرسية تشكل النواة الأولى مثلما تشكل مجالس البلدية النواة الأولى للديمقراطية،حيث يتاح للعقل العراقي وهو بعمر صغير أن يؤسس الثبات على الدرس والاطلاع وبهذا نستطيع ان نسبق الامم لجهادية التعلم والتفوق على العالم والانتقال بسرعة لتحقيق الاهداف العامة والخاصة،لكنه اعاب على وزارة التربية هذا الكسل والنكوص بالرغم من توفر الكوادر التي لم تبذل جهدا يذكر في تنمية الموارد البشرية ووضعها على سكة التربية والتعليم كونها تبحث عن النجاح السياسي وهذا خطأ لا يغتفر،لأن النجاح في رأيه يعتمد على طول الطريق ومواجهة الصعاب واكتشاف وسائل للتغلب عليها في عملية بناء الانسان الذي سينعكس على بناء مجتمع التكامل والتعاضد الاجتماعي وقوة اللحمة الوطنية باعتبار ميزان الثقافة والمعرفة يصب في بودقة تماسك المجتمع.واهاب بوزارة التربية والدولة حكومة وبرلمانا الانتباه للمكتبات المدرسية كونها تنمي العقل العراقي منذ الصغر.
الاسلام والمعرفة
من جانبه قال الإعلامي عبد الجليل الزيادي أن الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) شدد على طلب العلم من المهد إلى اللحد،وقد تشرب الأئمة الأطهار(عليهم السلام) ذلك من دون مدرسة أو معلم لكونهم أوصياء الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) فما بالنا وقد نسينا تراثنا الاسلامي الذي يؤكد على التعلم منذ الصغر باعتباره نقشا على على الحجر يفتت الحديد.مضيفا أن المكتبة المدرسية كان لها دور كبير في تنشئة المواطن.واكد انه في الوقت الحاضر لابد أن نستعيد تلك التوهجات لنكون من أكثر الدول مساهمة في صناعة التاريخ البشري والانساني .مبينا أن هذا الجهد لن يكون إلا من خلال جيل نسهر على تنشئته من المرحلة الابتدائية بتوفير طرائق تدريس وتدريب وحب المواطن والتلميذ للقراءة،والذي من خلاله ومن خلال انشاء المكتبات المدرسية تنطلق اولى شرارات التوهج العراقية لنخطو خطوات جادة ومثمرة مصحوبة بالايمان اننا شعب يتلهف للمعرفة ويحب القراءة كونها من أهم الأمور التي يحث عليها الدين الاسلامي.ولعلنا نلتفت إلى الرسول الكريم(صلى الله عليه وآله وسلم) عندما أطلق سراح الاسرى مقابل تعليم المسلمين القراءة والكتابة.اما عن أهل البيت (عليهم السلام) ،فنستشهد بقول أمير المؤمنين(عليه السلام) : الجاهل عدو نفسه. فهيا إلى تطوير ممارساتنا في عراقنا الجديد ولنبعث الأمل في هذا البلد الذي نتنفس هواءه وناكل من خيراته ولنخلص لأبنائه ولنتعاضد ونتلاحم في عملية بنائه.
الأمية طال اوانها
تحدث الينا المشرف التربوي المتقاعد سالم عبد الله قائلا: المكتبات المدرسية تأخذ بيد التلميذ في بداية نشأته وتدله على جوهر ثمين لتضعه في عالم المعرفة وهو ما معمول به في الدول المتقدمة كافة وكذلك في معظم الدول النامية.مضيفا وإذا اردنا أن نصبح الدولة الأكثر تقدما علينا وضع برنامج متكامل نسير على ضوئه كي نرى النور وقد توسع وعم ارجاء العراق،وتلك مهمة قصرت فيها وزارة التربية نتيجة اهمالها الجانب التربوي والمعرفي لابنائنا.ويرى ضرورة اسناد مطلب تطوير المكتبات المدرسية وتزويدها بالكتب الجيدة لإجراء الحوارات والنقاشات داخل قاعات المكتبة بشأن ما تعلمه وطالعه التلاميذ في كل اسبوع وهكذا ستنمو الذاكرة وتنشط ومن خلالها يبدأ النشء الجديد يتلمس معالم الحياة الصحيحة وبهذا نقبر أمية طال زمانها،وهي مهمتنا أيضا.
10/5/13222
https://telegram.me/buratha