شأن كل الكيانات الجيوسياسية القائمة على غير عهود وطنية، تتوارى الدولة وتصبح السلطة الضيقة وحدها العنصر المنغرس في أداء رجالها،وحينئذ فحسب يتكشّف جوهر الكيان نفسه، إن كان حقاً دولة وطنية أم شيئاً آخر، لا صلة له بالفئات الاجتماعية المنضوية بداخلها..
من فضائل الربيع العربي أنه أزال القشرة المضلّلة عن الفاكهة الفاسدة، إذ توحدّت النعوت التي كانت تضفى على الكيانات الجيوسياسية قومية أم اشتراكية أم دينية في النهاية الطبيعية والموضوعية. فمديونية المعنى لم تنقذ هذه الكيانات من الحتف الحتمي، وسواء أكانت تحكم باسم الرب أم باسم الشيطان فإنها حين تجاوزت الإنسان، المعني الأول والأخير بالدولة، يعني أنها اختارت أن تحارب من أجل مصلحة خاصة، لا صلة لها بطرف آخر حتى الشيطان نفسه..
لو أعاد التاريخ نفسه في الجزيرة العربية، لما لجأ آل سعود الى مصادر المشروعية نفسها التي باتت عبئاً ثقيلاً على كيان ينوء الآن بأحمال التاريخ والأيديولوجيا الدينية، ورغم ذلك لا يزال يجد نفسه مرغماً على التماهي معها، لأن البدائل تبطن خطراً وجودياً، بمعنى أن كل مصدر آخر للمشروعية هو على النقيض من المصادر القائمة.. ثمة وقائع كبرى تخضع للفحص العام اليوم عبر قنوات المناظرة الشعبية والتواصل الاجتماعي وتتصّل بجدارة وجدوى بقاء العائلة المالكة على رأس السلطة في هذا البلد، وكذا الدور غير المنضبط للمؤسسة الدينية، في مقابل دعوات متصاعدة ناحية الانتقال الديموقراطي وإرساء أسس الدولة المدنية وفق عقد إجتماعي يشارك فيه كل المكوّنات السكّانية، إن أريد لهذا الكيان البقاء موحّداً ومتماسكاً..
حتى الآن، لا يبدو أن النخبة الحاكمة المؤلّفة حصرياً من أعضاء في العائلة المالكة في وارد التفكير بمنطق الدولة الوطنية، وربما ساهم القصور الذاتي في تعزيز مثل هذه النزعة، بدليل أنها باتت تعمل في ضوء خطاب غرائزي شديد الفئوية والطائفية، وهو ذات الخطاب الذي أسّس السلطة السعودية لكنّه أخفق إخفاقاً ذريعاً في إقامة دولة وطنية.. يعني ذلك ببساطة، أن النكوص الى عقل ما قبل الدولة يشي بحقيقة أن الخطر بات وجودياً..
ليس هناك اليوم عدد كافٍ من الأفراد لخوض معركة المصير من أجل إدامة أمد النظام السعودي، بالرغم من صخب الخطاب الطائفي المعمّم عبر قنوات سلطوية إعلامية ومالية ولوجستية، فالأغلبية السكانية باتت في مكان آخر، ولم تعد حقن «التقديمات الاجتماعية» كافية لـ (تكسيل) الفعل الشعبي، فثمة فيض من التكتيكات في المقاومة المدنية يبدعها الشباب في كل المناطق وهي كفيلة بأن تدفع القيادة السياسية لإعادة حساباتها.. حتى الآن، الرهان قائم على أن هذا الشعب وبفعل انقساماته المذهبية والمناطقية والقبلية المرسّخة سلطوياً لن يكون قادراً على التوحّد في حركة احتجاجية شعبية، لكن ثمة معطيات جديدة كشفت عنها أحداث جرت مؤخراً..
المغامرة الأمنية التي أقدمت عليها وزارة الداخلية برأسها الجديد الأمير أحمد بن عبد العزيز بإطلاق النار على الرمز الديني والناشط نمر النمر ثم اعتقاله بعد إصابته في رجله وارتطام سيارته بجدار أحد البيوت في بلدة العوامية بمحافظة القطيف، جاءت في سياق إعادة ترميم الهيبة الأمنية، وتقديم أوراق اعتماد الوزير الجديد في لعبة المنافسة على العرش، فهو يجد نفسه أمام فرصة تاريخية كادت تفوت للأبد بعد التموضعات المخيبة التي جرت داخل حلبة السديريين السبعة ودفعت به خارج الحلبة حيناً من الدهر..
لا يمكن لأي مراقب لأداء وخطاب النظام السعودي إلا أن يضعهما في سياق الذهول المنفلت بوحي من الإحساس بالذعر من خبايا التحوّلات الاجتماعية التي جرت منذ انطلاق برامج التحديث مطلع سبعينيات القرن الماضي. أخذت التحوّلات تلك أشكالاً متعدّدة ومتصاعدة وصولاً الى مرحلة العولمة الاتصالية التي فقدت فيها مراكز التوجيه الديني والسياسي الرسمية تأثيرها المأمول، وخصوصاً في مرحلة باتت الحاجة الى تزخيم العصب وتأكيد الاصطفافات الشعبية حول النظام شديدة الإلحاح..
يخطئ من يعتقد أن السياسة الخارجية السعودية منوطة بجهة محدّدة، أو أنها تسير وفق استراتيجيات بعيدة ومتوسطة وقصيرة المدى، كما يخطئ من يعتقد أن ثمة تباينات بين صنّاع القرار حيال ملفات لا يمكن أن يتسلل اليها الخلاف مثل: اليمن، والبحرين، والعراق، وسوريا، ولبنان، وإيران.
فهذه ملفات لا تخضع لمبدأ المصلحة فحسب، بل ثمة عوامل أخرى ضالعة في توحيد الموقف السعودي الرسمي، ومن بينها العامل الطائفي، ليس لأنه غير مندغم في الفعل السياسي وإنما على الضد هو يمثل اليوم مكوّناً سياسياً فاعلاً، بل يعمل حالياً دوراً انقاذياً للكيان، وإلا لما وجدناه حاضراً بسطوة في اللهجة السعودية الرسمية وشبه الرسمية.. هل كان رئيس الديوان الملكي السابق ووزير الدولة الحالي الأمير عبد العزيز بن فهد مخطئاً حين نفث كلاماً طائفياً على صفحته في (تويتر)؟! وهل تصعيد العدواة للشيعة واعتبارهم أخطر من اليهود كما يروج في الوسط الديني السلفي في المملكة مجرد نفثة مصدور، أم أن الخطاب الطائفي أصبح مصدّاًرئيساً للنظام السياسي..؟
ولأن الطائفية نقيض تكويني للدولة، فإن اللجوء اليها يستهدف إنقاذ الســلطة على حساب الدولة. بل قد نذهب الى أبعــد من ذلك. إن الانغماس المفـرط في الشأن الســوري ـ وليس الثورة السورية ـ يبتغي إعادة بناء المشروعية الدينية للنظام السعودي داخل المجال السني العام، وأيضاً في الوسط الاجتماعي السلفي كرد فعل على ما أحدثته الانتفاضات العربية من تعــرية للمزاعم الدينــية والتاريخية التي نضبت تدريـجاً مع انتقال الربيع من بلد الى آخر..وثمة ســؤال الآن: من يفكر اليوم في دينية الدولة السعودية؟!
عشية دخول قوات صدام حسين الكويت في آب 1990، كانت السعودية على موعد مع أول انكسار في خطاب الوالي، إذ انشقت أزمة الخليج الثانية عن تيار صحوي أصاب الأساس الديني للدولة السعودية في مقتل، عبر سلسلة خطب وعرائض ومذكّرات، أطلقت موجة شكوك حول الالتزام الديني للدولة السعودية، بل وضع رمز صحوي كتاباً بعنوان (الكواشف الجليّة في كفر الدولة السعودية)، ثم جاءت (مذكّرة النصيحة) بعد فترة قصيرة من صدور الأنظمة الثلاثة (النظام الأساسي، نظامي مجلس الشورى ومجلس المناطق) التي أعلن عنها الملك فهد في آذار (مارس) 1992، والتي وقّع عليها ما يربو عن مئة رجل دين وناشط سلفي وصفت بأنها (مانفستو سلفي) طالبوا فيها بإعادة أسلمة الدولة السعودية. وفي رد فعل على المذكرة، قامت السلطات السعودية باعتقال مجموعة من مشايخ التيار الصحوي، الذين تنكبّوا من مقلب الى آخر حتى تباينوا في المواقف فصار قسم منهم مع الثورة العربية وإن بصورة مواربة، والبعض الآخر متردد بين البوح والانكفاء، وآخرون يرجون تغييراً غير مكلّف على المستوى الشخصي. مهما يكن، فإنه في اللحظة التي انفصلت الطبقة الثانية في التراتبية الدينية الرسمية، بدأ فتق المشروعية الدينية يتسّع بما جعل إمكانية الرتق مستحيلة، خصوصاً بعد ولادة تنظيم القاعدة الذي استلهم من أدبيات التيار الصحوي مبررات الصدام المسلّح مع النظام السعودي في 2003 وما تلاها..
ثمة مصدر قوة آخر تمسّكت به السلطة السعودية وهو الانجاز الأمني. وهنا كلام دقيق للغاية، فالدول الشمولية ليست بحاجة الى مصادر عديدة حتى تحافظ على استقرارها واستمرارها، فيكفي أن تملك أجهزة أمنية قادرة على القمع وفرض الهيبة كيما تقيم كياناً، تماماً كما لو أن شخصاً يمتلك أموالاً طائلة وبإمكانه أن ينظّم شبكة عصابات يقيم بها سلطة، لأن السلطة هي في الحساب النهائي اختلال ميزان القوة في المجتمع لصالح طرف ما. يتذكّر مناضلو الستينيات في السعودية ولا سيما اليساريون والبعثيون ما أحدثه عهد الملك فيصل من آثار نفسية مرعبة، الى حد أن بعضهم لا يزال يعيش في المنفى من وحي أهوال تلك المرحلة..ولكن بعد مرور أكثر من أربعة عقود، فإن النضال الشعبي المدني تصاعد الى مستويات متقدّمة، فيما لم تعد الهيبة الأمنية للنظام تشكّل عائقاً أمام الحراك الشعبي، رغم أن أدوات القمع وأساليبه لم تتغير، بل ازدادت بشاعة لكنها إرادة الشباب التي قلبت المعادلة.. في نهاية المطاف، فإن الهيبة الأمنية التي ارتبطت خلال العقود الأربعة الماضية بشخصية راسخة في النظام مثل الأمير نايف، ولي العهد ووزير الداخلية السابق، تتآكل بسرعة.
ليس من رهانات كثيرة متبقية بعد انقشاع سحر الأيديولوجية الدينية المشرعنة للسلطة، وأفول الهيبة الأمنية، وهذا يفسّر الى حد كبير الأداء المربك سياسياً وأمنياً وعسكرياً. ثمة من يمرّر رأياً مفاده أن التحضيرات للحرب الإقليمية القادمة تسمح بتقطيع مرحلة بخسارات جزئية وتحمّل تبعاتها..ليس هناك في المملكة السعودية من يتحدّث اليوم عن إصلاحات سياسية أو حتى انفراجات موضعية في الملف الحقوقي، باستثناء تنفيس احتقان هنا أو هناك، والحال نفسه ينسحب على الملف البحريني الذي بات سعودياً بامتياز.
قد يبدو صحيحاً القول ان تعاوناً أميركياً ـ سعودياً في الملف الاقليمي يقوم على تهدئة أميركية مؤقتة في الستة شهور المقبلة ريثما تحسم هوية القادم الى البيت الأبيض في مقابل تكفّل السعودية بالحفاظ على سخونة الوضع الإقليمي وصولاً الى اشعال الحرب المنتظرة منذ سنين لتغيير خارطة الشرق الأوسط بإسقاط النظام في سوريا وشلّ القدرات النووية الايرانية وتحطيم حركات المقاومة في المنطقة..
كل ما سبق يأتي في سياق صراع الوجود، لأن النظام السعودي على وعي تام بأنه أمام فرصة تاريخية لن تتكرر، فإما أن يحقّق انتصاراً في الحرب القادمة ويستعيد مكانة خسرها بعد الربيع العربي، أو أن يستعد لمرحلة الانفلاش الجيوسياسي بيده وأيدي حلفائه وخصومه.
8/5/1212
https://telegram.me/buratha