بقلم : جمال النهام
الديمقراطي نت
الساعة الآن تشير إلى السادسة والنصف مساءً، الجميع هنُا يُشدون الرحال إلى منازلهم، الشمس كذلك تجري لتستقر في مكانها، القمر يمشيء ببطئ شديد ليتولى مهمة الشمس، الجميع في هدوء تام، وصمت مطبق، لا صوت يعلو فوق صوت الهدوء، نحن الآن في محافظة صعدة، مدينة العلم والعلماء،
بداية القصة
عندما تدلف رجليك أراضي صعدة يتصور إلى ذهنك أنك في عالم آخر، هنا حيث الجبال الشامخة، والأراضي الواسعة، هنا حيث ماضي تجدد، وحاضر تبدد.
تقع محافظة صعدة في الجزء الشمالي من الجمهورية اليمنية إذ يبعد مركزها الإداري عنالعاصمة صنعاء شمالاً بحوالي ( 243) كيلومتراً) .
المساحة : 11375 كم مربع.
السكان : يبلغ عدد سكان محافظة صعدة وفقاً لنتائج التعداد السكاني لعام 1994م حوالي( 484,063 ) نسمة، قبل الحرب طبعاً..!!
صعدة عبر التأريخ
عرفت مدينـة صعـدة فـي النقوش اليمنيـة القديمـة بهـذه التسمية بالنقش الموسومبــ( CH 31 ) باسم ( ص ع د ت م ) ، كما عرفت بهذا الاسم في الفترة الإسلاميةالمبكرة ، وقد تناولتها بعض المصادر التاريخية الإسلامية المبكرة منها كتاب (صفة جزيرة العرب للهمداني ) بقوله : ( مدينة صعدة ، وكانت تسمى في الجاهلية" جماع " ، وكان بها في قديم الدهر قصر مشيـد ، فصدر رجل من أهل الحجاز منبعض ملوك البحر ، فمر بذلك القصر ، وهو تعب فاستلقى على ظهره ، وتأمل سمكهفلما أعجبه قال : لقد صّعده لقد صّعده !! فسميت صعدة من يومئذ ) ، أما "منتخبات في أخبار اليمن لنشوان بن سعيد الحميري " فيقول : ( صعدة مدينةباليمن لخولان بن عمرو بن الحاف بن قضاعة وسميت صعدة لأن ملكاً من ملوكحمير بنى له فيها بناء عالٍ فلما رآه الملك فقال لقد صّعده ، فسميت بذلك صعدة ) .
أما مدينة صعدة الحديثة فيرجع تأسيسها إلى ( القرن الثالث الهجري ـ القرن التاسعالميلادي ) حيث اختطها الإمام " الهادي إلى الحق يحيى بن الحسين بن القاسم " ،إذ تقع على بعد ( 3 كم ) من موقع صعدة القديمة التي كانت قائمة عند سفح جبلتلمص ، ولا زالت بقايا آثار أطلالها حتى اليوم ، ومنذ تأسيس مدينة صعدة الحديثةشهدت تطورات حضارية عبر مراحلها التاريخية أكسبتها ملامح المدينة العربيةالإسلامية بتخطيطها المعماري الهندسي ، وإبداعاتها الفنية ، وتقسيم تكويناتهاالرئيسية من حيث الأسواق والسماسر والحمامـات القديمة والمساجد والمدارسوالأسوار والبوابات القديمة والحارات وكل أثر تلمح فيه جمال الإبداع بحسب ماخصص من أجله ، واحتفظت عبر القرون التاريخية بطابع أصالتها الإسلاميةلتشكل نموذجاً حياً يشهد على مدى تطور العمارة والفنون منذ بداية العصرالإسلامي .
وازدهرت صعدة كمدينة علم ودين وثقافة وتجارة وصناعة وزراعة بالإضافة إلىدورها الرئيسي في أحداث العصر الإسلامي الذي شهد صراعات وحروب عنيفةمتواصلة على الساحة العربية عامة واليمنية خاصة .
ظلت مدينة صعدة مركزاً للدولة الزيدية التي استطاعت مقاومة وحسم كل العواصف والصراعات الداخلية والخارجية ، وهي الدولة الوحيدة على الساحة اليمنية التي استمرت متواصلة الخطى تاريخياً من عام ( 898 م ) حتى زمن قريب، دون غيرها من الدول الإسلامية اليمنية التي ظهرت على الساحة اليمنية لفترة زمنية، وانهارت، وحظيت مدينة صعدة بكثير من الإشارات الهامة عنها في مؤلفات الجغرافيين والرحالة العرب وكتب التاريخ والتراجم والسير ، فضلاً عن مختلف المؤلفات الدينية حيث كان لعلمائها وفقهائها دور ملحوظ في التاريخ الإسلامي ، ويرجع ذلك لأهميتها الدينية والسياسية والاقتصادية في تاريخ اليمن ، وإلى جانب موقعها الجغرافي الهام الذي أكسبها ميزة إيجابية على طريق الحجيج فهي همزة الوصل بين اليمن ونجد والحجاز بالإضافة إلى موقعها على طريق حجيج حضرموت ـ من العبر إلى الجوف وينضم في الطريق إلى الحج أهل مأرب وبيحان والسرويين ومرخة ـ ، ولا زالت معالم وشواهد مدينة صعدة تعكس عظمة العمارة الإسلامية وفنونها وتؤدي دورها إلى اليوم وستبقى معلماً عربياً إسلامياً ، وكنزاً للتراث الإنساني يستحق تظافر جهود كل المنظمات العربية والإسلامية والدولية المهتمة بحماية وصيانة كنوز التراث العالمي ، ومنه مدينة صعدة التاريخية وقلاعها وحصونها الإسلامية التي يرجع تاريخ معظمها إلى فترة حكم الوالي العثماني " حسن باشا " الذي استطاعت
قواته أن تخضع المنطقة الشمالية للسيطرة العثمانية بعد مقتل " أحمد بن الحسين " وهزيمـة جيشـه التي أدت إلى سقوط " صعدة " وما يليها شمالاً حتى نجران ، وقد اتسمت فترة حكم " حسن باشا " الطويلة زمنياً بالإنجازات الكثيرة للأعمال العمرانية والإنشائية في المجالات المدنية والعسكرية ، ومنها قلاع وحصون صعدة لتثبيت أركان حكمه ، ونتيجة لذلك برزت العديد من أسماء المواقع والأماكن الأثرية والتاريخية لفترتيها القديمة والإسلامية والتي لعبت دوراً مهماً في تطورات الأحداث التاريخية وأسهمت بإبداعاتها الأثرية المثيرة تاركةً بصماتها كشاهد على ذلك وسوف نتعرض لتلك المواقع والأماكن لاحقاً . منطقة ال عقاب جنوب محافظة صعدة.
حروب صعدة الست والبداية من مرّان
تعتبر قرية مّران المعقل الرئيسي للجماعة الحوثية،والتي انطلقت منها شرارة المواجهة الأولى بين الجماعة والجيش العام(2004م)،
وهي القرية التي كان يسكنها زعيم الجماعة السيد حسين بدر الدين الحوثي
وتعتبر قرية مران نقطة البداية للحرب الأولى ونقطة النهاية للحرب السادسة على مدينة صعدة ، حيث جرت معارك ضارية هناك ما أدى إلى تدميرها بالكامل، وإلحاق أضرار بالغة لكل طرف فيها، لكن الأكثر ضرراً بلا شك هم المواطنون، خاصة الأطفال والنساء، لان الحرب لا تفرق بين من يحمل السلاح ومن لا يحمله.
بدورنا قمنا بزيارة لتلك القرية ورأيناها خاوية على عروشها،، وخالية من الحياة إلا من الأشباح والدمار، مع عدد قليل من السكان الذين لا زالوا يتمسكون بالبقاء هناك، رغم كل هذه المعانات.
ومن هذه القرية أنطلق السيد حسين بدر الدين مع جماعته والذين كانوا قرابة المائة والعشرون رجلاً فقط ، كانوا هم النواة الأولى( للجماعة الحوثية)، أو بما يسمون أنفسهم ( جماعة أنصار الله)،.
ومع إندلاع الحرب الأولى في العام (2004م)، قُتل (20) طالباً وجرحَ (30)، وتم أسر عشرين آخرين واستطاع البقية النجاة من الموت بأعجوبة ، وانتقل ما تبقى منهم الى أماكن اخرى وعملوا على إعادة ترتيب صفوفهم، ولأن الحرب كانت تدار بطرق غير إنسانية ووحشية ضد الجميع في صعدة أنضم البقية إلى هذه الجماعة ليحموا أنفسهم وأعراضهم ومزارعهم ومذهبهم ، وباتت الجماعة تحضى بدعم ومساندة شعبية كبيرة، لان الدولة حشرت الجميع تحت القصف والتدمير.
وتم القبض على الكثير من أبناء صعدة لمجرد انتمائهم إليها ، ولوُحّق كل من هو هاشمياً أو زيدياً ، فتجمعت هذه المجاميع المظلومة تحت علم واحد، والذي يمثله السيد عبد الملك الحوثي ، وتحت شعار واحد وهو (الله اكبر الموت لأمريكا ، الموت لإسرائيل ، اللعنة على اليهود،النصر للإسلام ) وبذلك زاد أعداد هذه الجماعة إلى أعداد كثيرة امتدت هذه الحركة حتى وصلت إلى معظم مناطق اليمن ، وأصبحت هذه الجماعة رقم لا يستهان به في كل الجوانب (العسكرية – السياسية – الفكرية )- رغم -الحروب الطاحنة التي خاضتها تلك الجماعة مع وقوف وسائل الإعلام ضدها إلا أنها أضحت اليوم معروفة لدى العالم اجمع، وأصبح الجميع اليوم في اليمن يعترف بما تعرضت له هذه الجماعة، ويعترف بان لها السبق في الخروج في وجه السلطان الجائر وإشعال فتيل الثورة.
صعدة تحت الانقاض ..
في صعدة تجد معظم الأحياء ومنازل المواطنين مدمرة بالكامل، لا تكاد تمر على محال تجاري أو سوق شعبي إلا وترى حجم الدمار الذي ألحقته تلك الحروب الغير مبررة، ولا تمر على منزل إلا وتجد أماً ثكلى، وأطفال يُتم، ونساء أرامل، وعوائل مشردة.
السكان نازحين ومشردين دون مأوى يقيهم سقيّع البرد وأمطار الصيف ، بانتظار وعود الأعمار الزائفة ، وأيادي المنظمات الإنسانية لإغاثتهم والتي لم تعرف قط طريقها إليهم، المزارع دُمرت بالكامل ،والتي كانت تمثل الدخل لمعظم أبناء صعدة وترفد الاقتصاد الوطني بملايين الدولارات من خلال تصدير منتجاتها الزراعية الى الخارج ، وكأن المتأمل لما جرى لها – أي مزارع صعدة – بمثابة حرب ضروس ضد التنمية الزراعية للوطن عموماُ وتهدف الى إعاقة التنمية في المحافظة.
وللمساجد نصيبها !!
المساجد هي الأخرى نالها ما نال غيرها من مساكن المواطنين، والتي كانت عامرة بالذكر والصلوات،لم يراعى فيها حرمتها ولو قارنا بين ما لحق بمساجد صعدة عند مثيلتها في غزة لوجدنا عجب العجاب، حيث لم يدمر الصهاينة سوى عشرة مساجد ، بينما نجد حوالي ثلاثة وتسعون مسجداً دمرت تماماً في صعدة .
حرف سفيان
تقع مدينة (حرف سفيان) ما بين محافظتي( صعدة، وعمران)، مدينة دارت فيها معظم معارك الحرب السادسة، فجعلت المدينة أثراً بعد عين، حيث شهدت جرائم بشعة بحق ساكنيها، والفارين اليها، والذين ليس لهم في الحرب
لا ناقة ولا جمل الا أنهم تعرضوا للبطش والتنكيل، ومن أشهر الجرائم التي أرُتكبت فيها قصف طيران لملجئ يكتظ بالمواطنين (أطفالاً ونساء)، وراح ضحية هذه المأساة قرابة(70 ) طفلاً وإمرأة دفعة واحدة.
شعار الجماعة
منذُ انطلاق شرارة الحرب الأولى، بات لجماعة الحوثي شعارها الذي يميزها عن غيرها، هذا الشعار الذي عمل ضجة في الداخل والخارج، خصوصاً وهو يحمل في طياته ( الموت لأمريكا، الموت لإسرائيل، اللعنة على اليهود،النصر للإسلام)،.
عندما سُئل العلامة ( المحطوري) عن الجماعة أجاب أن فكرهم زيدي باستثناء الشعار، فهو عبارة عن اجتهاد من زعيمهم ( السيد/ حسين بدر الدين الحوثي)، ولكن عندما نسأل طلاب العلم في الجماعة يجيبون بأنه ليس الا ولاء لله، وبراءة من أعداءه( على قاعدة الولاء والبراء في الإسلام).
ونواجه سئوال منهم أيضاً: لماذا يشعروا الكثير من المسلمين بالاستياء من هذا الشعار رغم أنه يستهدف (أمريكا، وإسرائيل)، مصدر الشر في العالم الإسلامي؟!
مدينة حوث في قاموس تجار الحروب !
(حوث من تحوث، أي مدينة حوثية)
وأثناء العودة من محافظة صعدة، وبعد مدينة حرف سفيان، هناك مدينة تسمى ( حوث)، لم تسلم هي من مخلفات الحرب والدمار، وامتداد مسلسل المعاناة في الداخل والخارج إلى صعدة،لاقتران اسمها مع اسم الحوثيين، حيث روى لنا ساكنيها عن مأساة ما تعرضوا له جرى الهجوم عليها من قبل أنصار احد المشائخ النافذين.
موقف الجماعة الرافض للمبادرة الخليجية
رفضت الجماعة الحوثية المبادرة الخليجية منذ الإعلان عنها باعتبارها تمنح حصانة لكل من سفك الدماء وقتل الأبرياء قبل اندلاع الثورة وأثناء قيامها، كذلك تعتبر مؤامرة تطعن في الثورة الشبابية وتعيد بناء وهيكلة النظام بوجه أخر من جديد حد وصفهم.
صعدة مدينة السلام
رغم الحراك الشعبي الثوري الذي تشهده معظم محافظات الجمهورية منذ فبراير، وما صاحب ذلك من أعمال عنف، في كثير من المدن، الا أن الامن في محافظة صعدة مستتب، فلا وجود للفوضى، ولا جنود يطلقون النار على المتظاهرين ،ولا مواطنون يعتدون على المراكز الحكومية ، حيث سقط النظام هناك بطريقة سلسة وسلمية واستمرت الثورة بسلميتها منذُ اندلاعها.
https://telegram.me/buratha