عمان ـ الصباح الجديد:بعد عشرات حالات الاختطاف والقتل والتسليب التي شهدها الطريق الدولي الواصل بين بغداد و عمان، اطلق على هذا الطريق " طريق الموت" . وهو الى جانب الضلع الثالث الموصل الى سوريا حاز ايضاً اسم " مثلث برمودا ". ففي برمودا ، وهي نقطة نائية في المحيط الأطلنطي تختفي الطائرات المحلقة في الأجواء والسفن العابرة بشكل غامض لم يقدم للبشرية وقتها تفسيرا واضحا مما اضفى على المثلث هالة من الرعب والهلع ترتعد منه فرائص البشرية .. المثلث العراقي ليس غامضاً بقدر ما هو مريع ومثير للخوف لأنه غير منتظر ومتواصل منذ سنوات الأمر الذي يجعله قريبا من الأسطورة السوداء التي تتغذى على ذلك وتفعل فعلها في التأثير على الحركة التجارية الدولية بين العراق والعالم الغربي كله .. فهذا الطريق هو الرئة الحقيقية والممر الإستراتيجي لجميع السلع القادمة الى البلاد من الغرب اضافة الى ضلع برمودا السوري .. والتحقيق يشير بوضوح الى جرائم سلب وخطف لاتقوم بها المجموعات السياسية المسلحة .. فالمستهدفون ليسوا من طائفة واحدة ولا من مدينة واحدة ولا من قومية واحدة .. ومن هنا تأتي مسؤولية الدولة العراقية في حماية هذا الشريان الحيوي بأسرع وقت . والملفت للنظر ان الحمولات التابعة للأميركيين وقواتهم لا تتعرض لأي هجمات كما انها تتمتع بحماية منتظمة لا يجرؤ اللصوص على اختراقها. هذا التحقيق يحاول ان يضيء منطقة مظلمة لم تتسلط عليها اية اضواء دقيقة . وتبسط " الصباح الجديد " في تحقيقها جملة من القناعات والمواقف والمعلومات . وقد يكون بعضها غير قاطع ولا يمكن ان نتثبت منه ولكننا نضعه امام المسؤولين في بلادنا للتثبت منه والرد عليه ومعالجته.
اسطول الشاحنات النائم في انتظار الفرجيستقر اسطول كبير من الشاحنات العراقية التي تنقل البضائع الى بغداد في ساحات المدن الصناعية وكراجات "سحاب" المنطقة الصناعية في عمان .. حيث لا يتمكن سواقها ومالكوها من العودة الى البلاد بعد تزايد الخطر على حياتهم وعلى حمولاتهم واستهادفهم بعمليات السلب والتهديد. فقد اصبح هؤلاء ضمن شرائح متعددة منها راكبو سيارات الأجرة من اكثر الضحايا تأثراً بإستمرار غياب الرقابة الامنية والحماية على الطريق.. اضافة الى التخوف من تحمل اعباء وغرامة البضاعة (المسلوبة) اذا ما نجا السائق اصلاً بحياته الناقلون هنا مقيدون الى سلاسل الواقع لأنهم لايمتلكون مهنة غيرها ، والعديد منهم يعمل فيها منذ سنوات طوال. فنقل المواد الغذائية ومساحيق التنظيف ، خاصةً بحلول شهر رمضان الفضيل ، كانت بالنسبة لمستعملي هذا الطريق نهجاً ووسيلة عيش حتى ضاقت بهم الاسباب في الاونة الاخيرة الى حد تكدسهم بالعشرات هم وشاحناتهم في احدى ساحات المدينة الصناعية من دون ان يملأ جيوبهم اكثر مما يكفي لقوت يوم واحد. ابو محمد يصف الحالة بانها " قطع للارزاق خاصة فيما يتعلق بنقل البضائع لوزارة التجارة من حنطة وشعير ومساحيق تنظيف لتوزيعها على مخازن المحافظات المختلفة . وهي بضائع " لا صلة لها بالدول الإجنبية وليست موجهة لجهة اميركية او اجنبية كي يستهدفها البعض”الآلية المتبعة لنقل البضائع تبدأ بتحميلها من المصانع في الاردن ، والتي يملك اغلبها تجار عراقيون، قبل المرور بالحاسبة المركزية على الحدود الاردنية العراقية حيث يجري تسجيلها وتحديد مسيرة الشاحنة وصولاً الى محطتها الاخيرة التي تفرغ فيها الحمولة. وبسبب طبيعة الشحنات ومرجعيتها لم يكن امام الناقلين والمنتجين على حد سواء مشكلات قبل اشهر قليلة ولكن الأمور انعكست مؤخراً واخذت منحى لم يكن متبعاً به في السابق ، فقد تحولت اعمال عصابات السلب والنهب الى استهداف وبمهاجمة هذه الشاحنات بعد أن كانت تتجنب ذلك بداعي ان البضائع موجهة للشعب وليس الى جهة بعينها.
ويضيف ابو محمد:" بدأنا جميعاً تجنب تحميل المواد الغذائية لانها باتت الهدف الاول لهذه الهجمات. الخطورة تبدأ بعد عبور الحدود الاردنية مباشرة وتنتهي الى ما يعرف بمنطقة الـ 35 مروراً بمنطقة الـ 160 والتي تبلغ قرابة اربعمئة كيلو متر. السائق يضطر للتوقف مراراً على الطريق للتأكد من سلامة العجلات والحمولة ما يجعله صيداً سهلاً للجماعات التي تقف على شكل نقاط تفتيش احياناً وتداهم بسيارات حديثة احياناً اخرى وتستعمل التهديد المباشر باستعمال السلاح خلف وجوه ملثمة ويرتدون في الغالب ملابس مدنية ومن فئات عمرية مختلفة.
صيد سهل وطريق بلا حماية"الطريق خالية من الحماية يسترسل ابو محمد، تقوم تلك الجماعات المسلحة بايقاف الشاحنة تحت تهديد السلاح ومراجعة الاوراق الثبوتية وتبعية الحمولة والسيارة ليتم بعد ذلك تخمين قيمة الحمولة لتصادر اذا ما كانت ثمينة ويبقى الحظ هو العامل الرئيسي في بقاء السائق على قيد الحياة.اما ابو عارف فيروي ماسمعه وشهده من هذا الطريق قائلاً:" فقدت ابن عمي، على هذا الطريق المشؤوم بعد ان قام بتحميل مواد غذائية من عمان لصالح وزارة التجارة العراقية يرافقه سائقان من محافظة ديالى علماً بان لوحات الشاحنات كانت تحمل ارقام حكومية (مواصلات). هاجمت مجموعة مسلحة قافلتهم المكونة من ثلاث شاحنات فقتلت ابن عمي فقط ونجا السائقان الاخران بعد ان تمت مصادرة الشاحنات الثلاث و حمولاتها في منطقة يطلق عليها (الكيلو70).
ابو ياسين الذي انهى بالكاد عقده الثالث من العمر يؤكد انه يملك من الخوف القدر الكافي الذي يمنعه من العودة عبر هذا الطريق وذلك من صورة تولدت لديه بعد تكرارالانباء عن عمليات الذبح والقتل لسائقي شاحنات الطريق.
قاطعنا ابو حسين قائلاً: بعد ان سمعنا الاخبار عن اختطاف خمس شاحنات كانت تنقل مادة الحليب الى بغداد، والتي تبلغ قيمة حمولة كل واحدة منها اكثر من سبعين الف دولار،توقفنا جميعاً عن العمل وبدأنا نفكر بحال السائق الذي سيتحمل كلفة بضاعته المسروقة والغرامة المالية التي قد تودعه السجن لما تبقى من عمره". ومعروف ان اي سائق يقوم بتحميل اي بضاعة يتعهد خطياً بتسليمها كاملة وبحالة جيدة ويتحمل بخلاف ذلك جميع التبعات المالية والقانونية وهي شرط صار بمنزلة العقبة الاولى بوجه السائقين. ويضيف ابو حسين :" انا ورفاقي في عمان منذ قرابة الشهر والنصف لانجرؤ على العودة ولانعلم اين سينتهي بنا المطاف. في احدى المرات حاولنا نقل علب المشروبات الغازية الفارغة وعند وصولنا الى منطقة المطاعم داخل الاراضي العراقية كانت الساعة قد تجاوزت الساعة العاشرة ليلاً لنتفاجأ بسيارة قد اطفئت انوارها يقودها ثلاثة ملثمين يسألوننا بلهجة شديدة عن الحمولة. وعندما اجبنا بانها علب فارغة ذهبوا وتركونا في رعب افقدنا النوم في تلك الليلة وبقينا سهرانين نراقب كيفية مهاجمتهم لبقية الشاحنات التي يبدو انها كانت تحمل شيئاً اكثر اهمية من علب المشروبات الفارغة. فاذا قرروا مصادرة حمولة ما اخذوا جواز سفر السائق وتركوه الى ساعات الليل المتاخرة ليعودوا ويقايضوا جواز السفر بالحمولة.
تجارة سوداء وتجار مسروقاتابو عمر سائق اخر اكد بان اغلب الحمولات يتم تهريبها الى مناطق خارج العاصمة الى الجنوب والشمال ( اقليم كردستان ) مستشهداً بحادثة مرت برفاقه، يقول ابو عمر:" قابلت اناساً اكدوا بانهم شاهدوا شاحناتنا في محافظات الإقليم . وعندما تم القاء القبض على سائق الشاحنة المسروقة من قبل سلطات الشرطة في الإقليم اكد بانه لاعلم له بانها مسروقة وكونه اشتراها بحمولتها من احد السائقين.وتساءل ابوعمر :كيف يمكن لاحد ان يشتري حمولة مثل هذه من دون أن يسأل عن مصدرها وأوراقها الثبوتية؟!علماً بان البضاعة مختومة بانها مستوردة خصيصاً لوزارة التجارة العراقية وتحمل اوراقاً ثبوتية يتم تدقيقها في كل مرحلة من مراحل النقل.
يشارك في الحديث ابو محمد لقد دخلنا في متاهة قانونية بين الناقل والتاجر والسائق لا نهاية لها. تخيل ان يتحمل الناقل الذي تبلغ عمولته اربعون دولارا غرامة تصل احيانا الى مئات الاف الدولارات,أو تخيل سائقا تبلغ عمولته نحو مئة دولار متورطا بغرامة تتجاوز الاف الدولارات. انظر الى حال هؤلاء السائقين وستعرف ما اذا كان لديهم تلك الالاف.لقد تضررنا جميعا ناقلين وسائقين. الان لم يعد بإستطاعة السائق سوى نقل البضاعة التي لا تكلفه سوىمبلغ قليل في حال فقدانها مثل حفاظات الاطفال والجبس. احيانا صار السائقون يطلبون من التجار الصعود معهم على متن الشاحنة والمرور بالطريق للتأكد بأن السائق ادى واجبه على اكمل وجه وان الحوادث وعمليات السلب والنهب ليست جزءا من خطة السائق.
جريدة الصباح الجديد
https://telegram.me/buratha