الأخبار

الأبطال المنبوذون..!


 

مجيد الطائي ||

 

كان يخيل لي أن والدتي ـ رحمها الله ، كانت مولعة بالحزن والبكاء فكانت تندب وبلا ملل أخويّ الشهيدين في سجون الطاغية , وكان نحيبها يشـتد كلما يصير بيتنا مجلسـاً لعزاء الثكالى من أمهات السـجناء والشــهداء ويبكين مع بكائهن بكاء كل الأرامل والأيتام بعد أن فقدوا العزيز والمعيل حتى بدأت آثاث بيوتهم تنقص تباعاً ـ إن لم تكن أموالهم المنقولة وغير المنقولة قد صُدِرت كلهاـ ويستجيرون بالله من المستقبل المجهول

فهم غير مرغوب بهم رسـمياً والتقارير تلاحقهم و تصفهم بأنهم أعداء الحزب والثورة

وأعلن أكثر الأقارب والأصدقاء براءتهم من هذه العوائل لأنهم صاروا مصدراً للإزعاج والشـبهات،

أما مسؤولوهم السياسيون الإسلاميون ـ أعني مسؤولو إخواننا المعتقلين ـ فقد إختفوا بلمح البصر ولا أحد يعرف كيف ومتى والى أين , ولم يكن بإمكان الأعداء أو الأصدقاء أن يقتفوا أثر أحد منهم , ولعلهم هربوا أيضا من أن يعكر صفو مزاجهم التفكير بمعيشة ومصير المنكوبين من عوائل زملائهم.

كان أحدنا في البيت شديد اللهجة ويصرخ أين اختفوا ؟ إنهم هربوا بأنفسهم وعوائلهم بعد أن حرضوا اخواننا ومعيلي هذه العوائل المسكينة وقدموهم كقرابين للموت وكبش فداء , وبحسرة من خيبة الأمل كان يندب حظنا العاثر-  هل هؤلاء هم قدوتنا والأسـوة الحسـنة فينا

هل تصدقون أنهم يفكرون كيف سـيعيش هؤلاء الأيتام والأرامل؟

أنا أراهنكم من الآن الى بعد عشـر سـنوات بل قل عشـرين سنة إن فكر أحدهم بنا أو أستعلم أخبارنا أو يحاولون إغاثة هؤلاء المنكوبين بمصدر رزقهم !

وبوقار كان المرحوم والدي وقد ناهز السبعين يردد : إنما أشــكو بثي وحزني الى الله فصبر جميل والله المستعان وبهما أواسي سيد الشهداء بالقاسم وعلي الأكبر

وتوفي والدي ولم يكحل ناظره برؤية أخويّ ولم يرتد له بصـره ولم نكن نستطيع أن نفرحه حتى في قبره بعد سقوط الطاغية لأننا لم نجد لهم رفاتاً حتى في المقابر الجماعية

فقد يكونوا قد اختفوا في احواض التيزاب أو توزعت جثثهم في بطون أسـماك دجلة التي تقمصت دور سمك القرش

ولعل سلوى والدي هي أن جعلنا لهما قبراً رمزياً مشتركاً جنب قبره في وادي السلام

أما أنا فكنت أفتقد أخويّ وأصدقاءهم في مدينة الثورة ـ مدينة الصدر ـ أو في الجامعة الذين تعرفت عليهم عن قرب وأحببتهم بأشد مايكون الحب , إنه الحب في الله

إنهم كانوا المؤمنون حقاً ينشرون المحبة أينما حلوا ..

بل إنهم كانوا من خير البرية ..

أنهم كانوا نجوماً تتلألأ في ظلام سـماءنا المكفهرة ..

إنهم كانوا مصابيح هدىً وإشراقات أمل في غياهب الظلمات واليأس والقنوط ..

ولازالوا عند المؤمنين منا علامات الأمل لمستقبل مشرق وكأنهم يدعوننا لنخلص العراق العزيز وأهله من كل كابوس يجثم على صدره .

ونظام الطاغية صدام وأزلامه قد سعوا في الأرض ليفسـدوا فيها ويهلكوا الحرث والنسل، وقهرونا وأستضعفونا ولم يرقبوا فينا إلاًّ ولا ذمّة كي لانستطيع حيلة ولانهتدي سـبيلاً

كان كل الزمن مرعباً .. إنهم ضيّقوا علينا الأرض بما رحبت وكانوا يريدو أن يضيّقوا علينا أنفسـنا ليطفئوا نور الله في قلوبنا ويابى الله إلا أن يتم نوره فأعددنا لهم في ضمائرنا ماأستطعنا من قوة وجمعنا كل الإيمان في قلوبنا لنهاجر الى الله ورسوله وتوكلنا عليه لنجد في الأرض مراغماً كثيراً وسـعة بالمجاهدين الذين فضلهم الله على القاعدين والهاربين درجة

ونلتقي المجاهدين في الشمال ووجدناهم لبسـوا لباس التقوى وارتدوا الزي الكردي وتفننوا في لف قماش حزام الظهر وكانوا فينا يجسـدون العزة التي كتبها الله لنفسه ولرسـوله وللمؤمنين

وكان ولههم لللحوق بالشهداء الذين سبقوهم بالإيمان كآشتياق يعقوب ليوسف إنهم يرونهم ببصائر قلوبهم أحياء عند ربهم يرزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويسـتبشرون بالذين لم يلحقوا بهم أن لاخوف عليهم ولاهم يحزنون

ونحن نرجوا أن لايصيبنا ظمأ ولانصب ولامخمصة في سـبيل الله ولانطأ موطئاً نغيظ به المجرمين البعثيين ولاننال منهم نيلاً إلا كتب لنا به عمل صالح إن الله لايضيع أجر المحسـنين ولانقطع وادياً أو نحبو على جليد الشمال ولاننفق نفقة صغيرة ولاكبيرة إلا كتب لنا ليجزينا الله أحسن ماكنا نعمل

وكان أملنا الفوز بإحدى الحسـنيين… النصر أو الشــهادة.

ولكن … وآه لما بعد لكن

لكن المأسـاة أننا لم نفز بإحدى الحسـنيين

بل جرحنا في أبداننا ودارت بنا الدوائر ولاكتنا رحي مصائب الدنيا بلا ملل ولاهوادة وأصبحنا وكأننا نستحق الشـفقة وتجمعنا في بيت الجرحى للعراقيين وكنا نغبط الجرحى الإيرانيين لما يلاقونه من أنواع التكريم والتشريف وكأنهم شـهداء أحياء وأطلقوا عليهم لقب ( جانباز )

وكأنهم مصداقاً لمن يشـري نفسـه إبتغاءً لمرضات الله والله رؤوف بالعباد ويزيّنون جدرانهم بكلمة الأمام الخميني : أن بركات دماء جرحانا هي من أسـرار إنتصاراتنا

ولعل تكريم الجرحى والمضحين هي من المسلمات في تأريخ الأمم والأحزاب حتى رويّ عن أحد الصحابة أنه كلما يريد الكلام كان يشـير بأصبعه المبتور في حروب المسلمين كأنه يقول للناس أن الإسلام كرمني و (ولاة الأمر) وأتشرف بأصبعي المبتور

بل حتى الطاغية صدام ـ وإن كانت نواياه خبيثة دائماًـ كان قد أنفق هدايا على جرحاه

لم يهمل وينبذ أحد مثل جرحى المعارضة أيام المعارضة والمهجر

وأدبرت الدنيا معنا وكما قال الحكماء إذا أدبرت الدنيا يأتيك الشـر من حيث يأتيك الخير

ومع ضغط الآلام بكل أنواعها وإحسـاسـنا بأننا لم نعد نقدر بدنياً أن ندفع عن أنفسنا ضراً ولانملك لها نفعاً وفي هذه الأجواء يأتيك من تتمثل فيه أخلاقية الهزيمة ليوبخنا على سـوء فعلنا ويقول : ياأخي من ضربكم على إيديكم لتذهبوا للقتال .. ألم ننصحكم .. ولكن لاتحبون الناصحين … ياأخي هذه أوربا أمامكم وتفتح لكم أبواب الحياة والمستقبل … ويشهد الله على أنه مشفق علينا ويتولوا وهم فرحين

ولم تكن مرة واحدة أن يرجع أحدنا خائباً مرفوضاً ممن يتقدم للزواج من بنات العوائل العراقية في المهجر حتى علق أحدنا ساخراً ـ إننا لم يبقى لنا إلا المتردية والنطيحة وما أكل الســبع.

بل الحق أننا الجرحى المضحين أصبحنا في نظر الناس كالمتردية وأخواتها

فمن أخذت منه الألغام ساقه صار يكنى بالأعرج وكذا الذي أصيبت عينه لقبوه الناس الأعور وهذا المسكين أعمى وذاك مشـلول أو عليل

بل الأدهى وأمر أن لاتجد شظايا الحرب لتبتره من أحدنا إلا ما يمثل عنوان الرجولة في العقل العربي فأنه يظل وجهه مسـوداً وهو كظيم يتوارى من الناس من سوء ما بشر به أيمسـكه على هون أم يدسه في التراب ألا سـاء ما يحكمون

والمسـؤولون المتصدون ـ أيام المعارضة ـ لم تكن علاقتهم بالجرحى طيبة البته , بل كان لكل منهم شـان يغنيه فلم يبادر أحد منهم لزيارة الجرحى وعيادتهم إلا ماندر أو لتحيتهم وتكريمهم أو إعطاءهم شعوراً بأنهم من خيار القوم

ويسـتشـيط غضب الجرحى عندما نسـمع أن أحد المسـؤولين سـافر الى الخارج للعلاج أو النقاهة والنزهة , والجرحى بأمس الحاجة لذلك حسب التقارير الطبية وقد يكلفهم التأخير حياتهم

بل قد يتحايل المسـؤول ويسـرق ( أرسال) الى أوربا خصص لعلاج الجرحى من قبل المنظمات العالمية أو المؤسسـات الأيرانية فيسرق المسؤول هذا التصريح ليسـافر به الى اوربا أو قد يعطيه لخاصته وأقاربه

ولكل أمة أجل وجاء أجل أمة البعث و اسـقط الشـيطان الأكبر بيده نظام صنيعته وكأننا لم نكن أهلاً للنصر فأستبدل الله بنا غيرنا .

وأسـتلم الإسـلاميون السلطة ولم يلمس الجرحى والمضحين تغييراً يذكر

وبعد عام من السقوط تجمعنا عدد من الجرحى والمضحين وقررنا أن نطرق أبواب المسـؤولين ثانيةً لنطالب بحقنا ـ وإن كان ليس قليل ممن حضر معنا يكاد أن يكون يائسـاً من أن تلين قلوب المسـؤولين الإسلاميين ـ ولعلهم كانوا محقين بذلك , وصرنا نشعر بإنزعاج هؤلاء المسؤولين منا وكأننا صرنا نذكرهم بماضيهم في الفقر والعوز الذي لايحبون تذكره بعد عز المناصب وما تدره عليهم من أموال

فتسكعنا ليومين امام البوابة الرئسية للمنظمة التي كنا ننتمي لفيلقها ونحن نرجوا أن يتكرم علينا المسـؤولون وكأننا نسـتجدي عطفهم

وكان على مايبدو أن طلبنا كان فوق ما نسـتحق

ولم يرغب المسـؤول مقابلتنا , رغم أننا كنا معه أصحاب طريق واحد وكنا نعتبره كأحدنا .. وكان كذلك

وذهبنا الى المجلس لعلهم جلوا صدأ القلوب وشكروا النعمة حيث أورثهم الله ديار الذين ظلموا , وقدمني للمسؤول أحد الأصدقاء بشرف الأفتخار بأنني أخ لشهدين وأنني كنت من المجاهدين وكان المسؤول يتلهى بما أمامه لأن هذا الكلام لم يعد يعني له شيئاً

ثم قال له ـ إنه قادم من المانيا

حينها صحى المسؤول من غفوته والتفت لي بتملق

عفواً أستاذ تشرفنا

نعم قابلنا أحدهم في أحدى صالات الإسـتقبال

وشـرح بعضنا المسـألة من وجهة نظر إنسانية على إننا وتحت لواء المجلس جرحنا وأصبحنا نعاني من حالة عوق في أبداننا وخارت قوانا من هموم الغربة ونحن غير قادرين على العمل وليس لدينا مسـكن نستظل به ونريد إيجاد فرص عمل مناسبة لنا لنرجع الى وطننا الذي أحببناه وضحينا من أجله وبعضنا لازال تحت العلاج في خارج الوطن

والآخرمنا قال للمسـؤول بوضوح إن لنا حقاً في أعناقكم لم تؤدوه لنا بعد فإننا دفعنا دماءنا وأنتم تاجرتم بها فإننا نطالبكم بكل حقوقنا في السـكن والعلاج والحياة الكريمة , واذا ضيعتم دماءنا فأننا لانملك الا أن ندعوا عليكم أن تضيعوا في تيه كتيه بني أسرائيل

وكان يصرخ في وجوههم ( وقفوهم إنهم مسـؤولون ) وإننا سنقف يوماً خصوماً لكم ذلك يوم التغابن حيث تعاد الأمة الى نصابها ونشكيكم الى من لايحب أحد يشتكى عليه أمامه

وعدنا المسؤول خيراً وكان يشهد على مافي قلبه

لكن طلبنا أدرج على ما يبدو في درج الحفظ أو لعل سلة المهملات قد التهمته

والطامة الكبرى أن يتسـرب خبر من داخل المجلس مفاده أن موظفي المجلس وكتبته ومتملقيه قد حصلوا على قطع أراضي وإمتيازات والبعثيون المجرمون عادوا الى المناصب أو يستلمون حقوق تقاعدهم

وكرام القوم منبوذون

ولما عاد بعضنا الى الغربة من جديد سألهم أصدقاءهم هناك … هل استقبلوكم في العراق اسـتقبال الأبطال!

..........................................

كتبت هذه السطور عام ٢٠٠٥ وأنا الآن أرجو أن لا يمر الأبطال من جرحى الحشد الشعبي بما مررنا به .

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
التعليقات
ابو حسنين
2021-07-18
ما اصعب الحياة عندما تكون قسوتها من رفيق دربك وعندما يكون هو يملك الدواء وتصلك الطعنات ممن كان يوم يدعي الجهاد ضد الظلم والاستبداد نقول---- ويلي على اللي كال ربعي بالشده باعوني ضربوني بسهم غدر وبالكلب كتلوني عرفت حقيقة صحبتهم يو تركوني ويلي على كلبي قد ماتحمل مصائب تتحمل عداب الاهل وغدر الاصحاب وحتى اللي كال بروحي افداك عند الحقيقه طلع اشر كداب ونقول ان يطعنك احدهم في ظهرك فهدا امر طبيعي ولكن ان تلتفت وتجده اقرب الناس لمظلوميتك فتلك الكارثه
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
almajahi : نحن السجناء السياسين في العراق نحتاج الى تدخلكم لاعادة حقوقنا المنصوص عليها في الدستور العراقي..والذي تم التصويت ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
جبارعبدالزهرة العبودي : لقد قتل النواصب في هذه المنطقة الكثير من الشيعة حيث كانوا ينصبون كمائنا على الطريق العام وياخذون ...
الموضوع :
حركة السفياني من بلاد الروم إلى العراق
ابو كرار : السلام عليكم احسنتم التوضيح وبارك الله في جهودكم ياليت تعطي معنى لكلمة سكوبس هل يوجد لها معنى ...
الموضوع :
وضحكوا علينا وقالوا النشر لايكون الا في سكوبس Scopus
ابو حسنين : شيخنا العزيز الله يحفظك ويخليك بهذا زمنا الاغبر اكو خطيب مؤهل ان يحمل فكر اسلامي محمدي وحسيني ...
الموضوع :
الشيخ جلال الدين الصغير يتحدث عن المنبر الحسيني ومسؤولية التصدي للغزو الفكري والحرب الناعمة على هويتنا الإسلامية
حسين عبد الكريم جعفر المقهوي : عني وعن والدي ووالدتي وأولادها واختي وأخي ...
الموضوع :
رسالة الى سيدتي زينب الكبرى
حيدر : انا لله وانا اليه راجعون يعني منين نبدي هو انتو سامعين بشي اسمه نقابة معلمين او فد ...
الموضوع :
السوداني يستقبل وفد نقابة المعلمين ويشيد بدور الملاكات التربوية وجهودها في العملية التعليمية
Hussain Hamza : سبحان الله انقل السحر على الساحر!! لماذا تدعمون إسرائيل ضد العرب؟ وضد غزة؟ هل لكم الحق في ...
الموضوع :
ردا الى تصريحات ترامب :: الناتو : الدول الأعضاء متمسكة بمبدأ الدفاع عن بعضها البعض
علي عباس مراد : اني احد منتسبي الشرطة الاتحادية المفسوخ عقدة من جراء الاصابة بعبوة ناسفة والمرض ولم استلم اي تعويض ...
الموضوع :
دائرة شؤون المواطنين في الأمانة العامة لمجلس الوزراء تستقبل شكاوى المواطنين عبر موقعها الإلكتروني
فيسبوك