سوريا - لبنان - فلسطين

عظمَ اللهُ أجر فلسطين والأمة بشهداء جباليا


د. مصطفى يوسف اللداوي ||

 

بحزنٍ وأسى وحرقةٍ وألمٍ ودع عشرات الآلاف من سكان مخيم جباليا، المخيم الأكبر للاجئين الفلسطينيين شمالي قطاع غزة، شهداء عائلة "أبو ريا" الواحد والعشرين، الذين سقطوا ضحية الحريق الهائل الذي اندلع في المبنى الذي اجتمعت فيه العائلة للاحتفال بابنها العائد الطبيب المتفوق، وقد التأم شمل العائلة صغاراً وكباراً، زائرين ومقيمين، فرحاً وسعادة، وقد جاؤوا بزينتهم وهداياهم للتهنئة والمباركة، وكأنهم كانوا على موعدٍ مع القدر، فما تخلف منهم إلا القليل ممن كتب الله لهم الحياة، ولكن قدر الله عز وجل كان الغالب، فأدركهم الموت واستبقوا جميعاً إلى خالقهم، فنحسبهم عنده سبحانه وتعالى شهداء يرحمهم، ويدخلهم فسيح جناته، ويجمعهم بمن سبقهم من الأنبياء والصديقين والشهداء.

الحادثة أليمة قاسيةٌ والمصاب جللٌ كبيرٌ، والفاجعة تحرق القلوب وتفتت الأكباد، إذ تكاد تكون عائلة بأكملها قد ذهبت ضحية الحادث، فالشهداء جميعهم من أسرةٍ واحدةٍ، أقاربٌ وأشقاءٌ وآباءٌ وأبناءٌ، ولكن أحداً لا يملك رد القضاء وصد القدر، ولا يعرفٌ أحدٌ أين حتفه ومتى موته، فإنَّا لله وإنَّا إليه راجعون، وعظم الله أجر شعبنا وأمتنا بهذه المصيبة، ونسأله سبحانه وتعالى أن يكلأ من بعدهم بحفظه ورعايته، وأن يكرم من بقي من ذويهم بالصبر الجميل والسلوان والحسن، وأن يجعل من رحلوا فرطاً لأهلهم في جنان الخلد والفردوس الأعلى، يستقبلونهم في أعلى مقامات الجنة.

خرج عشرات الآلاف من سكان مخيم جباليا ومن مختلف أرجاء القطاع، يتقدمهم وجهاءٌ ومسؤولون، ومقاومون وحكوميون، وعسكريون ومدنيون، ونوابٌ ومخاتيرٌ، وشيبٌ وشبانٌ، ورجالٌ وأطفالٌ، في مشهديةٍ عظيمةٍ تذكر بجنائز عظام الشهداء، وتعيد المجد إلى أيام الانتفاضة المجيدة، وتذكر الشعب والأمة بأيام الله الخالدة، حيث سبق لهذا المخيم العظيم، المشهود له بالبذل والعطاء والتضحية والفداء أن قدم آلاف الشهداء، ورسم بسيرتهم العطرة ودمائهم الزكية أعظم الصور الملحمية وأروع المشاهد في المواجهة والجهاد، وفي المقاومة والصمود، وفي التحدي والقتال، حتى غدا بحق مخيم الثورة ومهد الانتفاضة.

قد لا تمضي الأيام القادمة في مخيم جباليا بسهولةٍ كسابقاتها، كما مضت مريرةً صعبة قاسيةً مؤلمةً على أهل مخيم النصيرات قبل سنواتٍ قليلةٍ، عندما عصف بهم حريقٌ كبيرٌ فّجَّرَ خزانات الوقود ومولدات الكهرباء، وحرق المحال والمعامل والبيوت، وقُتلَ فيه حرقاً عددٌ غير قليلٍ من عامة المواطنين، وأصيب عشراتٌ آخرون بجراحٍ بليغةٍ ربما ما زال بعضهم يعاني منها حتى اليوم.

شوارع مخيم جباليا وحي تل الزعتر قد اتشحت بالسواد، وغادرت بيوتها البسمة، وأغلقت فيه سرادقات الزفاف وصالات الفرح، وأعلنت سلطات غزة حالة الحداد العامة، وأبدى الفلسطينيون عموماً وأهل قطاع غزة المقيمون فيه والبعيدون عنه سفراً وعملاً، ودراسةً وعلاجاً، وإبعاداً وطرداً، حزنهم الشديد وتعاطفهم الكبير مع ذوي الضحايا، ولعلهم كثيرٌ وأنا وأهل بيتي منهم، فنحن من سكان مخيم جباليا، ولدنا فيه وترعرعنا، وعشنا فيه وتعلمنا، ونعرف أهله وسكانه، وبيننا وبينهم علاقات قربى ونسب، وروابط محبةٍ ومصاهرةٍ، وبقية أهلنا وعامة عائلاتنا فيه يعيشون، فأصابنا ما أصاب غيرنا من الهم والحزن، فلم ننم ليلتها ونحن نتصل ونسأل، ونتابع ونسمع، فالمصاب  مصابنا، والضحايا هم أهلنا.

مما لا شك فيه أن التحقيقات قد بدأت، وأن السلطات المعنية في قطاع غزة قد باشرت العمل لمعرفة أسباب الحادث، والظروف التي كانت وساعدت على اندلاع الحريق وسرعة انتشاره، وستكون معنيةً جداً بمعرفة مدى استجابة فرق الدفاع المدني وسرعة تلبيتها النداء، ودورها في محاولة استنقاذ المواطنين وإخراجهم من المبنى، ومن المؤكد أنه سيكون هناك تقريرٌ نرجو أن يكون مهنياً صادقاً شفافاً، لا يحابي سلطةً ولا يداري مسؤولاً، يكشف فيه عن الحقيقة، ويبين الأسباب، ويوضح السلبيات التي كشفتها الحادثة، والعيوب التي ظهرت في أجهزة الدفاع المدني ومدى استعدادها وجاهزيتها، وسرعة تلبيتها وجهوزية طواقمها، وملائمة تجهيزاتها ومعداتها.

قد تبقى الجراح على مَرِّ الأيام غائرة وبيوت العزاء مفتوحة، ومآقي العيون بالدموع تسبح، والقلوب من الحزن تتمزق، وعلى الأحبة والخلان تكاد تنفطر، فلا تعود الحياة حلوة كما كانت، وجميلة كما أرادوها بِلَمِ الشمل واجتماع الأهل واستعادة الذكريات، وهي المدينة ومخيماتها التي اعتادت على المحن والابتلاءات، وعلى المصائب والنكبات، وشهدت الحروب والاقتحامات، والعدوان والاغتيالات، ولكنها كانت دائماً تصبر وتصمد، وتتعالى على الجراح وتسمو، ومن كبواتها كانت تنهض، ومن أحزانها تخرج، وعلى جراحها تنتصر.

رحم الله الشهداء، وتغمدهم وبواسع رحمته، وأكرم أهلنا في مخيم جباليا وعموم قطاع غزة الصبر الجميل والسلوان الحسن، وعوضنا وإياهم عمن فقدنا العوض الحسن، وإنا لله وإنَّا إليه راجعون، ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.

 

بيروت في 20/11/2022

moustafa.leddawi@gmail.com

 

 

ـــــــــــــــــ

اشترك في قناة وكالة انباء براثا على التلجرام
https://telegram.me/buratha
اضف تعليقك
الاسم والنص والتحقق من الروبوت ضروري
الاسعار الرسمية للعملات مقابل الدينار
دينار بحريني 0
يورو 0
الجنيه المصري 0
تومان ايراني 0
دينار اردني 0
دينار كويتي 0
ليرة لبنانية 0
ريال عماني 0
ريال قطري 0
ريال سعودي 0
ليرة سورية 0
دولار امريكي 0
ريال يمني 0
التعليقات
حسن الخفاجي : الحفيد يقول للجد سر على درب الحسين عليه السلام ممهداً للظهور الشريف وانا سأكمل المسير على نفس ...
الموضوع :
صورة لاسد المقاومة الاسلامية سماحة السيد حسن نصر الله مع حفيده الرضيع تثير مواقع التواصل
عادل العنبكي : رضوان الله تعالى على روح عزيز العراق سماحة حجة الإسلام والمسلمين العلامة المجاهد عبد العزيز الحكيم قدس ...
الموضوع :
بالصور ... احياء الذكرى الخامسة عشرة لرحيل عزيز العراق
يوسف عبدالله : احسنتم وبارك الله فيكم. السلام عليك يا موسى الكاظم ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
زينب حميد : اللهم صل على محمد وآل محمد وبحق محمد وآل محمد وبحق باب الحوائج موسى بن جعفر وبحق ...
الموضوع :
صلاة الإمام موسى بن جعفر الكاظم (عليه السلام) لقضاء الحوائج
دلير محمد فتاح/ميرزا : التجات الى ايران بداية عام ۱۹۸۲ وتمت بعدها مصادرة داري في قضاء جمجمال وتم بيع الاثاث بالمزاد ...
الموضوع :
تعويض العراقيين المتضررين من حروب وجرائم النظام البائد
almajahi : نحن السجناء السياسين في العراق نحتاج الى تدخلكم لاعادة حقوقنا المنصوص عليها في الدستور العراقي..والذي تم التصويت ...
الموضوع :
مجلس الوزراء : موقع الكتروني لإستقبال الشكاوى وتقديم التعيينات
جبارعبدالزهرة العبودي : لقد قتل النواصب في هذه المنطقة الكثير من الشيعة حيث كانوا ينصبون كمائنا على الطريق العام وياخذون ...
الموضوع :
حركة السفياني من بلاد الروم إلى العراق
ابو كرار : السلام عليكم احسنتم التوضيح وبارك الله في جهودكم ياليت تعطي معنى لكلمة سكوبس هل يوجد لها معنى ...
الموضوع :
وضحكوا علينا وقالوا النشر لايكون الا في سكوبس Scopus
ابو حسنين : شيخنا العزيز الله يحفظك ويخليك بهذا زمنا الاغبر اكو خطيب مؤهل ان يحمل فكر اسلامي محمدي وحسيني ...
الموضوع :
الشيخ جلال الدين الصغير يتحدث عن المنبر الحسيني ومسؤولية التصدي للغزو الفكري والحرب الناعمة على هويتنا الإسلامية
حسين عبد الكريم جعفر المقهوي : عني وعن والدي ووالدتي وأولادها واختي وأخي ...
الموضوع :
رسالة الى سيدتي زينب الكبرى
فيسبوك